الأسرة كلها مجتمعة فى بيتنا؛ عائلة أبى ببعض ممثليها، وعائلة أمى بكامل هيئتها.
هيصة ولمة عندنا، ليس فقط لمشاهدة مباراة الأهلى والزمالك فى التليفزيون الأبيض وأسود الموجود فى شقتنا، ولكن لترقب وصول (الحفيد الأول) فى العائلة بجناحيها.
(نعيمة) ترقد على حافة سريرها.. تتقلب.. تتأوه.. تتصبب عرقا، قبل يومين على أول ديسمبر، تلحظ اهتمام الجميع بالمباراة، فتبالغ فى إظهار معانتها. آهة من الواد فى بطنها، وآهتان من عندها حلاوة (الطلق).
زوجها الشاب (مصطفى) ينفعل مع المباراة.. ينشال وينحط.. يخبط الترابيزة، فتكاد الصينية المستطيلة ذات اليدين المنقوشتين أن تسقط بما عليها من أكواب الشاى.. يحاول إثبات جدارته بقيادة مشجعى الزمالك الأقل عددا - على الأقل فى الجلسة- وذلك فى مواجهة نسايبه الأهلاوية.. يشتم اللاعبين.. يسب الحكم.. يراهن على هدف قادم لا محالة لأبناء الزى الأبيض.
(عطيات) حدجت ابنتها البكرية (نعيمة) بنظرة حادة وعطوفة فى آن، شكمتها بدهاء امرأة قوية حنكتها خبرات الحياة، والانتقال من حال إلى حال، حملت عيناها رسالة شديدة اللهجة عنوانها: (بلاش كهن).
النظرة فضحت البنت.. كشفتها.. عرتها.. كانت أكبر من طاقة ابنة التاسعة عشر.. ظلت تشد عليها اللحاف لتتأكد من ستره لجسدها، عبأت أنفاسها رائحة (قطن التنجيد) الذى لم يمر على عزقه وحشوه سوى 10 أشهر.
(مصطفى) كانت ملامح وجهه أكثر افتضاحا، بل أكثر إثارة للضحك، فمن المؤكد أن عينيه ليستا مركزتين فى التليفزيون، بل أنه لا يعرف الأبيض من الأحمر، أو الفاتح من الغامق، إن شئت الدقة، وأن (مباراة قمته) لم تنطلق بعد.
كان يتظاهر بحصر الفرص الضائعة، بينما كان يعد - في سره- مرات (الطلق). ينظر فى ساعته بتوتر، لا ليعرف المتبقى من الشوط الأول، ولكن ليحسب الوقت الضائع على موعد وصول (الداية)!
فى الاستراحة، دخلت (حنان) -الأخت الأصغر من نعيمة بعامين- بصينية (حمص الشام) بالشطة والليمون. من بين سحب دخان الحمص، اختلس (مصطفى) نظرة خاطفة لزوجته تفيض حبا ورقة، وذلك للمرة الثامنة والعشرين منذ بداية المباراة، كما أحصتها نعيمة بدقة.
سرير نعيمة احتل واجهة الحجرة المفتوحة على الصالة التى امتدت فيها الجلسة، فكانت كما لو كانت تشاركهم الفرجة. بعينين واهنتين أحصت الجالسين، هذا أبوها الحاج (المنواتي) تاجر الأخشاب الميسور يجلس على كنبة الصالون القطيفة النبيتى متكئا بكوعه على المسند المدهب، وبجواره جلس أخواها الأصغر من حنان؛ محمد وأشرف.
أختها (عبير) ذات الست سنوات، تشد كوب الحمص من (أيمن) الذى يكبرها بعامين. تجرها (حنان) وتعطيها نصيبها من الحمص فى كوب أكبر، فتفرح به عبير، وتخرج لأخيها لسانها فى تشفٍ.
بالقرب من الترابيزة الرخام الموضوع فوقها التليفزيون، انزوى حسين وسيد بجوار شقيقهما الأكبر مصطفى؛ الأول يصغره بعام واحد ويعمل حدادا، والثانى يصغره بـ 4 أعوام ويعمل نجارا.
انتزع الجميع من بداية الشوط الثانى خبط رصين على الباب بثلاث دقات عميقة مركزة، فتح (أشرف) الباب لأم مصطفى التى دخلت وخلفها ابنتاها؛ (أمينة) و(بطة)، المتناقضتان كأنهما من بطنين مختلفتين؛ الأولى عابسة مقتضبة دوما دون سبب، والأخرى تضحك بلا توقف بصوت أقرب إلى السرسعة.. وأيضا دون سبب!
هب مصطفى فأنزل عن رأس أمه السبت الكبير الملىء باللحم والبط والسمن البلدى والأرز، وأخذ من أختيه أكياس ورقية وكراتين زاخرة بالخيرات.
مال على يد أمه يقبلها، وفى سحبته لرأسه لأعلى لمحت أمه الفلاحة القرارى "شبح دمعة" تكاد تسقط من عينه خوفا وقلقا، فحدجته بعينيها العسليتين زاجرة، فأعاد الدمعة إلى عينه بسرعة، ويا دار ما دخلك شر!
التقت الحماتان فى المطبخ، وانهالت قبلات البنات على البنات، وفجأة أطلقت نعيمة صرخة جادة لا تحتمل التأويل: الحقوووونى مش قادرة خلاص".
انشقت الأرض عن الداية عند أول السرير، وكأنها عفريت العلبة، وكانت قد دخلت فى زحمة السلامات ورص السبت والكراتين.
ظهر الهلع على وجه مصطفى، قال مرتبكا أنه سينزل ليشترى سجائر من البقال، تاركا خلفه صوت الداية الآمرة التى تشخط فى الجميع.
لم يشعر مصطفى بنفسه - وهو الموظف المحترم- إلا وهو يركض فى الشارع. لم يترك فرصة لأحد أن يستوقفه، أو حتى يرمى عليه السلام.
وصل لاهثا إلى مسجد الشعرانى فى الميدان المسمى باسم صاحبه، اغتاظ أن وجد باب المسجد مغلقا، سب أم الشيخ، ثم تنبه أن صلاة العشاء انتهت منذ أكثر من ساعتين، استغفر للشيخ وأمه، ثم سب أبو العامل الذى رفض أن يفتح له المقام فى هذا الوقت المتأخر بدون رشوة لا تقل عن سيجارة حشيش!
دلف من باب جانبى يؤدى إلى ممر ضيق يقود إلى شارع الشعرانى الجوانى، وفى منتصف الممر أمسك بباب الشباك المفتوح على الضريح وبكى وبكى، كان يريد أن يدعو لزوجته وابنه المنتظر لكنه تلعثم وتلجلج وبكى ثم بكى وبكى.
اشترى علبة السجائر وعاد إلى البيت، وقف على السلم يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، انتشله من هلعه زغاريد مجلجلة، ميز آخرها بالسحبة الطويلة الرنانة لحماته.. مسح دموعه.. بلع ريقه.. دخل الشقة فازدادت الزغاريد عددا وطولا وسحبا.
ولد زى القمر باسم الله ما شاء الله.. انتفخت أوداجه.. استشعر فرحة ممزوجة بالكبرياء والعظمة دون مبرر، سدد نظرته فى عينى نعيمة بلغة لم تحطها الحروف بعد، قالوا له: ألف مبروك.. يتربى ف عزك.. عقبال ما تخاويه.. بركة انها قامت بالسلامة فرد بلا مبالاة مصطنعة: أنا مش عارف انتم كنتم قلقانين على إيه؟!
"محمد إن شاء الله".. هكذا قال الحاج عبد الله وهو يدخل من الباب، قبل أن يضم ابنه الأكبر مصطفى فى حضنه.
أطلق الحكم صافرة نهاية المباراة معلنا ميلادى.. أنا جيت.
ملحوظة:
هذه المباراة تحديدا بين جميع مباريات القمة، وكانت موسم 1980 لم أعرف نتيجتها على وجه الدقة.. ولم أحاول.
أبى أخبرنى أن الزمالك فاز 3/2 ، وأمى أقسمت لى أن الأحمر فاز بهدفين نظيفين، ومن يومها وأنا أعتبر هذه المباراة انتهت بفوز الفريقين.
هيصة ولمة عندنا، ليس فقط لمشاهدة مباراة الأهلى والزمالك فى التليفزيون الأبيض وأسود الموجود فى شقتنا، ولكن لترقب وصول (الحفيد الأول) فى العائلة بجناحيها.
(نعيمة) ترقد على حافة سريرها.. تتقلب.. تتأوه.. تتصبب عرقا، قبل يومين على أول ديسمبر، تلحظ اهتمام الجميع بالمباراة، فتبالغ فى إظهار معانتها. آهة من الواد فى بطنها، وآهتان من عندها حلاوة (الطلق).
زوجها الشاب (مصطفى) ينفعل مع المباراة.. ينشال وينحط.. يخبط الترابيزة، فتكاد الصينية المستطيلة ذات اليدين المنقوشتين أن تسقط بما عليها من أكواب الشاى.. يحاول إثبات جدارته بقيادة مشجعى الزمالك الأقل عددا - على الأقل فى الجلسة- وذلك فى مواجهة نسايبه الأهلاوية.. يشتم اللاعبين.. يسب الحكم.. يراهن على هدف قادم لا محالة لأبناء الزى الأبيض.
(عطيات) حدجت ابنتها البكرية (نعيمة) بنظرة حادة وعطوفة فى آن، شكمتها بدهاء امرأة قوية حنكتها خبرات الحياة، والانتقال من حال إلى حال، حملت عيناها رسالة شديدة اللهجة عنوانها: (بلاش كهن).
النظرة فضحت البنت.. كشفتها.. عرتها.. كانت أكبر من طاقة ابنة التاسعة عشر.. ظلت تشد عليها اللحاف لتتأكد من ستره لجسدها، عبأت أنفاسها رائحة (قطن التنجيد) الذى لم يمر على عزقه وحشوه سوى 10 أشهر.
(مصطفى) كانت ملامح وجهه أكثر افتضاحا، بل أكثر إثارة للضحك، فمن المؤكد أن عينيه ليستا مركزتين فى التليفزيون، بل أنه لا يعرف الأبيض من الأحمر، أو الفاتح من الغامق، إن شئت الدقة، وأن (مباراة قمته) لم تنطلق بعد.
كان يتظاهر بحصر الفرص الضائعة، بينما كان يعد - في سره- مرات (الطلق). ينظر فى ساعته بتوتر، لا ليعرف المتبقى من الشوط الأول، ولكن ليحسب الوقت الضائع على موعد وصول (الداية)!
فى الاستراحة، دخلت (حنان) -الأخت الأصغر من نعيمة بعامين- بصينية (حمص الشام) بالشطة والليمون. من بين سحب دخان الحمص، اختلس (مصطفى) نظرة خاطفة لزوجته تفيض حبا ورقة، وذلك للمرة الثامنة والعشرين منذ بداية المباراة، كما أحصتها نعيمة بدقة.
سرير نعيمة احتل واجهة الحجرة المفتوحة على الصالة التى امتدت فيها الجلسة، فكانت كما لو كانت تشاركهم الفرجة. بعينين واهنتين أحصت الجالسين، هذا أبوها الحاج (المنواتي) تاجر الأخشاب الميسور يجلس على كنبة الصالون القطيفة النبيتى متكئا بكوعه على المسند المدهب، وبجواره جلس أخواها الأصغر من حنان؛ محمد وأشرف.
أختها (عبير) ذات الست سنوات، تشد كوب الحمص من (أيمن) الذى يكبرها بعامين. تجرها (حنان) وتعطيها نصيبها من الحمص فى كوب أكبر، فتفرح به عبير، وتخرج لأخيها لسانها فى تشفٍ.
بالقرب من الترابيزة الرخام الموضوع فوقها التليفزيون، انزوى حسين وسيد بجوار شقيقهما الأكبر مصطفى؛ الأول يصغره بعام واحد ويعمل حدادا، والثانى يصغره بـ 4 أعوام ويعمل نجارا.
انتزع الجميع من بداية الشوط الثانى خبط رصين على الباب بثلاث دقات عميقة مركزة، فتح (أشرف) الباب لأم مصطفى التى دخلت وخلفها ابنتاها؛ (أمينة) و(بطة)، المتناقضتان كأنهما من بطنين مختلفتين؛ الأولى عابسة مقتضبة دوما دون سبب، والأخرى تضحك بلا توقف بصوت أقرب إلى السرسعة.. وأيضا دون سبب!
هب مصطفى فأنزل عن رأس أمه السبت الكبير الملىء باللحم والبط والسمن البلدى والأرز، وأخذ من أختيه أكياس ورقية وكراتين زاخرة بالخيرات.
مال على يد أمه يقبلها، وفى سحبته لرأسه لأعلى لمحت أمه الفلاحة القرارى "شبح دمعة" تكاد تسقط من عينه خوفا وقلقا، فحدجته بعينيها العسليتين زاجرة، فأعاد الدمعة إلى عينه بسرعة، ويا دار ما دخلك شر!
التقت الحماتان فى المطبخ، وانهالت قبلات البنات على البنات، وفجأة أطلقت نعيمة صرخة جادة لا تحتمل التأويل: الحقوووونى مش قادرة خلاص".
انشقت الأرض عن الداية عند أول السرير، وكأنها عفريت العلبة، وكانت قد دخلت فى زحمة السلامات ورص السبت والكراتين.
ظهر الهلع على وجه مصطفى، قال مرتبكا أنه سينزل ليشترى سجائر من البقال، تاركا خلفه صوت الداية الآمرة التى تشخط فى الجميع.
لم يشعر مصطفى بنفسه - وهو الموظف المحترم- إلا وهو يركض فى الشارع. لم يترك فرصة لأحد أن يستوقفه، أو حتى يرمى عليه السلام.
وصل لاهثا إلى مسجد الشعرانى فى الميدان المسمى باسم صاحبه، اغتاظ أن وجد باب المسجد مغلقا، سب أم الشيخ، ثم تنبه أن صلاة العشاء انتهت منذ أكثر من ساعتين، استغفر للشيخ وأمه، ثم سب أبو العامل الذى رفض أن يفتح له المقام فى هذا الوقت المتأخر بدون رشوة لا تقل عن سيجارة حشيش!
دلف من باب جانبى يؤدى إلى ممر ضيق يقود إلى شارع الشعرانى الجوانى، وفى منتصف الممر أمسك بباب الشباك المفتوح على الضريح وبكى وبكى، كان يريد أن يدعو لزوجته وابنه المنتظر لكنه تلعثم وتلجلج وبكى ثم بكى وبكى.
اشترى علبة السجائر وعاد إلى البيت، وقف على السلم يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، انتشله من هلعه زغاريد مجلجلة، ميز آخرها بالسحبة الطويلة الرنانة لحماته.. مسح دموعه.. بلع ريقه.. دخل الشقة فازدادت الزغاريد عددا وطولا وسحبا.
ولد زى القمر باسم الله ما شاء الله.. انتفخت أوداجه.. استشعر فرحة ممزوجة بالكبرياء والعظمة دون مبرر، سدد نظرته فى عينى نعيمة بلغة لم تحطها الحروف بعد، قالوا له: ألف مبروك.. يتربى ف عزك.. عقبال ما تخاويه.. بركة انها قامت بالسلامة فرد بلا مبالاة مصطنعة: أنا مش عارف انتم كنتم قلقانين على إيه؟!
"محمد إن شاء الله".. هكذا قال الحاج عبد الله وهو يدخل من الباب، قبل أن يضم ابنه الأكبر مصطفى فى حضنه.
أطلق الحكم صافرة نهاية المباراة معلنا ميلادى.. أنا جيت.
ملحوظة:
هذه المباراة تحديدا بين جميع مباريات القمة، وكانت موسم 1980 لم أعرف نتيجتها على وجه الدقة.. ولم أحاول.
أبى أخبرنى أن الزمالك فاز 3/2 ، وأمى أقسمت لى أن الأحمر فاز بهدفين نظيفين، ومن يومها وأنا أعتبر هذه المباراة انتهت بفوز الفريقين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.