لماذا لدينا مجتمع مدني؟ وما الهدف من تأسيس عشرات الآلاف من الجمعيات المدنية التي نبتت في كل مكان مثل الفطر؟ وهل تتوفر هذه الجمعيات على الشروط والظروف والإمكانيات التي تساعدها على عملها؟ طرحت هذه الأسئلة مرارا في ذهني وأنا أستمع لشرح معمق حول دور الجمعيات المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك تتأسس هيآت المجتمع المدني من أجل هدفين اثنين, أولهما لتؤسس لحكم ومبادرة ذاتيين, بمعنى أن تدافع عن قضايا مشتركة أو تنظم أمور المواطن خارج الإطار الحكومي.
مثلا, يقوم السكان بتأسيس جمعية في كل حي سكني ويجتمعون بشكل دوري من أجل مناقشة قضايا الحي وسكانه, ويعقدون حلقات استماع بحضور خبراء وشهود عيان قبل اتخاذ أي قرار عن طريق التصويت باعتباره أكثر الآليات ديمقراطية وليس عن طريق آخر.
كانت دهشتي كبيرة عندما عرفت أن شركة اتصالات قررت أن تنصب لها في أحد الأحياء لاقطا هوائيا للشبكة, فعاد أمر البت في هذا القرار لجمعية الحي وليس للسلطات التي يتبع لها الحي, اجتمع مجلس جمعية الحي وناقش الأمر وطرح سلبياته وإيجابيته ثم لجأ إلى التصويت, فكانت النتيجة أن رفضت أغلبية المصوتين إقامة اللاقط في حيهم وهو القرار الذي خضعت له الشركة لأنه لم يعد بإمكانها أن تفعل شيئا مادام السكان قد رفضوا. ولعل دهشتي الكبيرة مردها أنه خلال السنوات الماضية اشتغلت على مواضيع كثيرة لها علاقة بلواقط شركات الاتصالات التي تقام في بعض الأحياء السكنية, ووصلتنا عبر الإذاعة شكايات من جمعيات ومواطنين كانوا يرفضون إقامة لاقط في حيهم السكني ورغم ذلك تمت إقامته, بل كان من بين المشتكين من يتهم هذه اللواقط بالتسبب في الإصابة بأمراض مزمنة مثل مرض السرطان ومع ذلك لا تتم إزالتها إلا فيما ندر.
مثال آخر مثير للدهشة من حي جورج تاون بالعاصمة واشنطن, في هذا الحي وقبل سنوات طويلة رفض السكان أن يكون لديهم نظام النقل 'مترو الأنفاق', وذلك بعدما اجتمع مجلس الحي وناقش الموضوع وصوت عليه السكان بالرفض قائلين: ابنوا الأنفاق لكن ليس في حينا!
السبب الثاني لتأسيس هيآت المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأمريكية هو التشارك, ففي بلد يمنع فيه على الحكومة أن تحتكر القرار السياسي يصبح المجال متاحا أمام الجمعيات المدنية لتمتلك أداتين مهمتين للغاية وهما المناصرة والضغط (Advocacy and lobbying). ولعل الكلمتين معروفتان لدينا في المنطقة العربية جيدا, ليس لأن مجتمعنا المدني يمتلكهما أيضا ولكن لأن مجموعة من القضايا التي تهم بلداننا تأخذ اتجاها أو آخر معاكسا بحسب حجم المناصرة أو الضغط اللذين تلقاهما من طرف الجمعيات في أمريكا.
كيف تتأسس هذه الجمعيات؟ وهل تحتاج مثلما لدينا إلى وضع سبع نسخ من جميع الأوراق الشخصية لأعضائها المؤسسين لدى كل من السلطات المحلية والمحكمة الابتدائية؟ الجواب هو لا, هناك خطوات بسيطة لفعل ذلك ويمكن أن تتم بسرعة وسهولة غير متوقعتين، أول هذه الخطوات هي المبادرة الفردية, أي أن يبادر المواطن إلى تأسيس الجمعية, واتخاذ المبادرة أمر يعد جزءا من ثقافة وعقلية الأمريكي والتي غذتها أكثر المدرسة بتشجيعها الفكر الفردي والعمل الجماعي, وهي الخصلة التي ساهم في تكريسها أيضا التكوين المستمر الذي يهدف إلى صنع قيادات في عملية التفكير انطلاقا من فكرة 'نريد قططا لا غنما' كما يقول الأمريكيون.
الخطوة الثانية, يعلن عن تأسيس الجمعية فورا ودونما انتظار لأن لا حاجة لأي تصريح لتأسيس أي هيئة من هيآت المجتمع المدني في ظل الدستور الأمريكي الذي يمنع أي قانون يحد من حرية التنظيم أو التجمع. وثالثا يتم تسجيل الجمعية فقط من أجل الحصول على رقم للضرائب حتى يمكنها استقبال أموال الدعم من الشركات التي تقبل بكثافة على التبرع لمؤسسات المجتمع المدني لكي تعفى في المقابل من دفع الضرائب, وعملية التسجيل تتم عبر الإنترنت وتستغرق ساعتين على الأكثر.
ويتوقع من كل جمعية أو منظمة مدنية كيفما كان الهدف الذي أنشئت من أجله, أن تضع استراتيجيتها للتواصل مع المجتمع وإقناعه بعملها الذي يجب أن يكون ضمن المصلحة العامة ويصب في خدمة المجتمع, كما تكون هذه الجمعيات التي تتمتع باستقلال مادي فيما بينها ائتلافات حتى تشكل قوة كبيرة تضغط أو تناصر للتشارك مع الحكومة في اتخاذ القرارات, وهكذا يتبين أن الجمعيات المدنية هي منبع ومصدر جميع السياسات الداخلية في الولايات المتحدة وبدون استثناء. ولعل ذلك ما يفسر حجم التغطية الإعلامية والنشر والترويج الذي تلقاه الأنشطة التي تنظمها. وتحضر هذه الجمعيات والائتلافات الجلسات التشريعية التي تكون مفتوحة أمام العموم, ويراقب ممثلوها أعضاء المجلس التشريعي وأداءهم وكيفية تصويتهم الذي يكون علنيا, فتحدد تبعا لذلك موقفها منهم في الانتخابات المقبلة ومما كانت ستدعمهم أم لا, ولكم أن تتخيلوا ما يمكن أن تفعله أصوات قاعدة عريضة من الناخبين تمثلهم هذه الجمعيات بمستقبل هذا المرشح أو ذاك!
معلومة أخيرة بهذا الخصوص, وهي أنه رغم كل هذه الصلاحيات والمساحة التي تتمتع بها الجمعيات والهيآت المدنية في أمريكا, لا توجد وزارة للمجتمع المدني هناك على شاكلة الوزارة التي استحدثت عندنا.
هناك تتأسس هيآت المجتمع المدني من أجل هدفين اثنين, أولهما لتؤسس لحكم ومبادرة ذاتيين, بمعنى أن تدافع عن قضايا مشتركة أو تنظم أمور المواطن خارج الإطار الحكومي.
مثلا, يقوم السكان بتأسيس جمعية في كل حي سكني ويجتمعون بشكل دوري من أجل مناقشة قضايا الحي وسكانه, ويعقدون حلقات استماع بحضور خبراء وشهود عيان قبل اتخاذ أي قرار عن طريق التصويت باعتباره أكثر الآليات ديمقراطية وليس عن طريق آخر.
كانت دهشتي كبيرة عندما عرفت أن شركة اتصالات قررت أن تنصب لها في أحد الأحياء لاقطا هوائيا للشبكة, فعاد أمر البت في هذا القرار لجمعية الحي وليس للسلطات التي يتبع لها الحي, اجتمع مجلس جمعية الحي وناقش الأمر وطرح سلبياته وإيجابيته ثم لجأ إلى التصويت, فكانت النتيجة أن رفضت أغلبية المصوتين إقامة اللاقط في حيهم وهو القرار الذي خضعت له الشركة لأنه لم يعد بإمكانها أن تفعل شيئا مادام السكان قد رفضوا. ولعل دهشتي الكبيرة مردها أنه خلال السنوات الماضية اشتغلت على مواضيع كثيرة لها علاقة بلواقط شركات الاتصالات التي تقام في بعض الأحياء السكنية, ووصلتنا عبر الإذاعة شكايات من جمعيات ومواطنين كانوا يرفضون إقامة لاقط في حيهم السكني ورغم ذلك تمت إقامته, بل كان من بين المشتكين من يتهم هذه اللواقط بالتسبب في الإصابة بأمراض مزمنة مثل مرض السرطان ومع ذلك لا تتم إزالتها إلا فيما ندر.
مثال آخر مثير للدهشة من حي جورج تاون بالعاصمة واشنطن, في هذا الحي وقبل سنوات طويلة رفض السكان أن يكون لديهم نظام النقل 'مترو الأنفاق', وذلك بعدما اجتمع مجلس الحي وناقش الموضوع وصوت عليه السكان بالرفض قائلين: ابنوا الأنفاق لكن ليس في حينا!
السبب الثاني لتأسيس هيآت المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأمريكية هو التشارك, ففي بلد يمنع فيه على الحكومة أن تحتكر القرار السياسي يصبح المجال متاحا أمام الجمعيات المدنية لتمتلك أداتين مهمتين للغاية وهما المناصرة والضغط (Advocacy and lobbying). ولعل الكلمتين معروفتان لدينا في المنطقة العربية جيدا, ليس لأن مجتمعنا المدني يمتلكهما أيضا ولكن لأن مجموعة من القضايا التي تهم بلداننا تأخذ اتجاها أو آخر معاكسا بحسب حجم المناصرة أو الضغط اللذين تلقاهما من طرف الجمعيات في أمريكا.
كيف تتأسس هذه الجمعيات؟ وهل تحتاج مثلما لدينا إلى وضع سبع نسخ من جميع الأوراق الشخصية لأعضائها المؤسسين لدى كل من السلطات المحلية والمحكمة الابتدائية؟ الجواب هو لا, هناك خطوات بسيطة لفعل ذلك ويمكن أن تتم بسرعة وسهولة غير متوقعتين، أول هذه الخطوات هي المبادرة الفردية, أي أن يبادر المواطن إلى تأسيس الجمعية, واتخاذ المبادرة أمر يعد جزءا من ثقافة وعقلية الأمريكي والتي غذتها أكثر المدرسة بتشجيعها الفكر الفردي والعمل الجماعي, وهي الخصلة التي ساهم في تكريسها أيضا التكوين المستمر الذي يهدف إلى صنع قيادات في عملية التفكير انطلاقا من فكرة 'نريد قططا لا غنما' كما يقول الأمريكيون.
الخطوة الثانية, يعلن عن تأسيس الجمعية فورا ودونما انتظار لأن لا حاجة لأي تصريح لتأسيس أي هيئة من هيآت المجتمع المدني في ظل الدستور الأمريكي الذي يمنع أي قانون يحد من حرية التنظيم أو التجمع. وثالثا يتم تسجيل الجمعية فقط من أجل الحصول على رقم للضرائب حتى يمكنها استقبال أموال الدعم من الشركات التي تقبل بكثافة على التبرع لمؤسسات المجتمع المدني لكي تعفى في المقابل من دفع الضرائب, وعملية التسجيل تتم عبر الإنترنت وتستغرق ساعتين على الأكثر.
ويتوقع من كل جمعية أو منظمة مدنية كيفما كان الهدف الذي أنشئت من أجله, أن تضع استراتيجيتها للتواصل مع المجتمع وإقناعه بعملها الذي يجب أن يكون ضمن المصلحة العامة ويصب في خدمة المجتمع, كما تكون هذه الجمعيات التي تتمتع باستقلال مادي فيما بينها ائتلافات حتى تشكل قوة كبيرة تضغط أو تناصر للتشارك مع الحكومة في اتخاذ القرارات, وهكذا يتبين أن الجمعيات المدنية هي منبع ومصدر جميع السياسات الداخلية في الولايات المتحدة وبدون استثناء. ولعل ذلك ما يفسر حجم التغطية الإعلامية والنشر والترويج الذي تلقاه الأنشطة التي تنظمها. وتحضر هذه الجمعيات والائتلافات الجلسات التشريعية التي تكون مفتوحة أمام العموم, ويراقب ممثلوها أعضاء المجلس التشريعي وأداءهم وكيفية تصويتهم الذي يكون علنيا, فتحدد تبعا لذلك موقفها منهم في الانتخابات المقبلة ومما كانت ستدعمهم أم لا, ولكم أن تتخيلوا ما يمكن أن تفعله أصوات قاعدة عريضة من الناخبين تمثلهم هذه الجمعيات بمستقبل هذا المرشح أو ذاك!
معلومة أخيرة بهذا الخصوص, وهي أنه رغم كل هذه الصلاحيات والمساحة التي تتمتع بها الجمعيات والهيآت المدنية في أمريكا, لا توجد وزارة للمجتمع المدني هناك على شاكلة الوزارة التي استحدثت عندنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.