![mrymhraz](http://i.huffpost.com/gen/4167468/original.jpg)
أعرف أنّي لو قلتُ لوالديَّ إنَّني سأقفز من طائرةٍ بعد دقائق قليلة، فسيشتري لي تذكرة سفرٍ ليعيدني إلى الوطن على متن أقرب طائرة؛ لذا بعثت رسالةً إلى أختي بعصبيةٍ واضحةٍ حين وصلتُ إلى الكوخ أقول فيها: «سأقفز بالمظلَّة بعد دقائق». تأكَّدت هي من أنَّ نبرتي كانت تقريريةً ولم تكُن سؤالاً. جاء ردُّها: «هل أنتِ متأكدة؟» قلت في نفسي، هل تهزئين بي؟ فلم أكُن متأكدةً من شيءٍ أكثر من هذا.
في عيد مولدي الثامن عشر، قُلت إني أريد أن أقفز بالمظلة. لقد مرَّت خمسة أعوام الآن؛ فهذا هو الوقت المناسب تماماً، فوق صحراء «ناميبا» وأمامي المحيط الأطلسي. كان اليوم يوافق عيد مولد «كولين» ورتَّبت لها «لولو» مفاجأةً بالقفز بالمظلة. كُنَّا أثنى عشر شخصاً أخذتهم نوبةٌ من الحماس زادها توهُّجاً المبيت في كوخٍ به أسرَّةٌ.
حين وصلنا إلى «غراوند رَش أدفينتشرز» (Ground Rush Adventures)، كان «أندرس»، و«آنَّا»، و«بِث» مرتدين بدلة القفز ويستعدون للانطلاق. علا صوت الموسيقى، وكان الهواء البارد يضرب وجوهنا، وكان الحماس يملأ الجو. كُنَّا نشجع كل من يقفز وننتظره في صفٍ حتى يعود مرةً أخرى لنُحييه.
وأخيراً جاء دوري للقفز مع «لينسي». ذهبت إلى الحجرة التي يُملون علينا فيها التعليمات ونرتدي فيها بدلة القفز، لكن كانت هناك مشكلة أشار إليها المُدرِّب: «اخلعي غطاء رأسك من فضلكِ». أدرتُ إليه رأسي وعيناي وفمي مفتوحان عن آخرهما؛ فلم يكُن هذا خياراً مطروحاً من الأساس. أجبته وحلقي يبدأ في الانسداد: «لا لن أخلع غطاء رأسي». فردَّ: «لن يبقى غطاء رأسكِ في مكانه إذا قفزتِ بالمظلَّة. لن يبقى شيء. يجب أن تخلعيه». رَأَت «لينسي» لون وجهي يتغيَّر. أعرف الكثير من الفتيات اللاتي يقفزن بالمظلات دون أن يطير غطاء رأسهن. هدأت نفسي قليلاً وشرحت له أنّي أضع دبابيس على غطاء رأسي تُثبته في مكانه، وبوجود النظارات فسيكون كل شيءٍ على ما يرام.
هزَّ رأسه وقال بلامبالاة: «إنَّه قراركِ، لكن لا تغضبي مني إذا نزلتِ ووجدتِ أنَّكِ فقدتِ غطاء رأسكِ». أسرعت إلى أصدقائي وشرحت لهم الأمر بعصبيةٍ؛ فبدأوا في التفكير في عدة طُرق يمكنني بها تثبيت غطاء رأسي. شعرت في هذه اللحظة بالفخر بأصدقائي. ذهبتُ إلى المُدرِّب بشجاعةٍ وقلت له إنَّه لا شيء يدعو للقلق. وبينما كانت تنتابني الكثير من المشاعر، أدركتُ أنني ربَّما أكون أوَّل فتاة مُحجَّبة تقفز بالمظلَّة معهم. لهذا السبب تفهَّمت عدم إدراكهم الموقف بأكمله. كان يجب أن أثبت لهم أنَّهم كانوا على خطأ؛ فحجابي لا يعوقني.
فجأة وبعد أربعين دقيقة وعشرة آلاف قدمٍ، كان عليّ أن أتوجه إلى حافة الطائرة وأجلس حيث التوت ساقاي بقوة تحتها. مال صدري إلى الداخل وعقدت يديَّ عليه. قيل لي إنَّنا لن نقفز دون ابتسامة على وجهي، ولكني نظرت إلى أسفل بخوف. قلت لنفسي: «ليس هناك وقت للخوف»، وكانت تلك هل اللحظة التي تركت فيها كل شيء ضايقني ورائي وأسرعت الخطى لأبدأ ثلاث عشرة دقيقة من الحرية.
كان السقوط الحُرُّ مبهجاً؛ فأنت تسقط بسرعة مائتي ميل في الساعة لمدة ثلاث دقائق قبل سحب المظلة. وفي خضم صراخي، شعرت ربما لثانية بالفزع من احتمالات ألَّا تُفتح المظلة (احتمالات ضعيفة جداً في زمننا)، ولم أشعر بالارتياح إلا عندما فُتحت بسلاسة. سحبتني قوة فتح المظلة إلى أعلى حتَّى ملأ الهواء المظلة لتصبح مفتوحة عن آخرها، وتوقَّفنا عن الحركة. للحظة ساد الهدوء والسكون. الفراغ يحيطني، ولا صوت يصل إلى أذنيّ، ولا بناية تعترض نظري، ولا مساحة معزولة. لا شيء سوى السماء. تحتنا تستقر الكثبان البرونزية وبجانبها المحيط بلون الكوبالت المتداخل مع خيوط من الأزرق الغامق تمُثِّل الأمواج.
لم أشعر بالوقت إلَّا حين بدأنا في شق طريقنا إلى الأرض بقفزاتٍ بهلوانية في الهواء. نزلت على الأرض أرتجف والأدرينالين يشعرني بالذهول من كل ما حولي. لقد قفزت للتو من على متن طائرة!
في وقت لاحق من ذلك اليوم خرجنا لنتناول عشاءً جميلاً في بلدة إقامتنا الصغيرة التي تبدو ميتة: «سواكوبموند». ومع أني نمت في وقت متأخر جداً استيقظت في السابعة صباحاً لحزم حقيبتي؛ فقد تعودت على الروتين. مرَّ اليوم بسرعة، نمت كثيراً وأكلت كثيراً لدرجة أنني استيقظت في الخامسة مساءً قلقةً من أنّي قد فوَّتُّ فرصتي الوحيدة لتناول الكعك؛ فعُدت إلى النوم. من الواضح أنَّ تفويت الكعك لم يزعجني كثيراً.
لقد نسيت شيئاً واحداً؛ إنَّها قصةٌ أتذكرها حتى اليوم. عندما وصلنا إلى «سواكوبموند» ذهبت إلى الصيدلية لشراء أقراص الملاريا، ووُجّهتُ إلى الخزينة حتى أدفع ثمنها. واسمحوا لي بأن أشير إلى أن الناميبيين هم أكثر شعب ودود التقيته في حياتي. كانت السيدة المسؤولة عن الخزينة سمراء البشرة، ترتدي رباط رأس أزرق يُضفي جمالاً على بشرتها، وشكل فكِّها يجعل وجهها رائعاً. ابتسمت وقالت: «يعجبني لون بشرتك». نظرت في وجهها وأنا أشعر بالحيرة والإطراء معاً وقلت: «وأنا يعجبني لون بشرتك أيضاً»؛ فحدَّقت فجأة في وجهي في حالة من الرهبة وقالت: «لقد قلت يعجبني لون غطاء رأسك». محرجةً أجبت: «ما زال لون بشرتك يعجبني». وفهمني الجميع حينها.
مرَّ الوقت سريعاً وجاء اليوم التاسع. وجدنا أنفسنا في طريقنا إلى «سبيتزكوبي» Spitzkoppe، ولكننا ذهبنا أولاً في جولة بمدينة «مونديسا» Mondesa التي صنعها الغزاة الألمان للسود العاملين في «سواكومبوند». قبيلة هيريرو (واحدة من أكبر القبائل في ناميبيا)، ترعى الماشية، وتتحدَّد فيها رُتبة الأفراد بعدد الماشية التي يملكونها. ملابسهم التقليدية مستوحاة من الألمان؛ إنَّها تذكيرٌ دائمٌ بتاريخهم واطمئنانٌ لأنَّهم أقوياء الآن في الواقع. إنهم يرتدون الملابس التقليدية منذ لحظة الزواج. وقبعاتهم واسعة على شكل قرون الماشية.
لا تتزوَّج فتيات «هيريرو» إلا بموافقة أعمامهن. والرجل يُمكنه أن يتزوَّج أربع نساء. لكن يجب أن يحصل الزوج على موافقة زوجته الأولى إذا أراد أن يتزوج أخرى لتُقرر إن كانت ستسمح له أم لا.
البلدة مليئة بمجموعات عرقية مختلفة، تجد كل واحدة منها طرقاً متعددةً لتبقى على قيد الحياة، ومنها: اكتشاف الأعشاب التي تعالج الأمراض، وطرق للطبخ دون غاز أو كهرباء. إنَّه شعورٌ غريبٌ حين ترى كيف تتحداك الحياة، فقط لتبقى. وامتلاك أساسيات الحياة يجعلني أدرك كم أنا محظوظة. إنَّها تجربةٌ كاشفة حقاً.
وصلنا في وقتٍ متأخرٍ بعد الظهر إلى «سبيتزكوبي» Spitzkoppe، وهي مجموعة من قمم الغرانيت التي يبلغ ارتفاعها ألفاً وسبعمائة متر فوق سطح الأرض. ويقال إنَّ عمرها مائة وخمسون مليون سنة. إنَّها قمم ضخمة، وداكنة، وناعمة. والصخور الصغيرة من تحتها توفر لك طريقاً لتتسلَّق إلى الأعلى. جعلتني الرمال الواقعة تحت القمم وجذوع الشجر أدرك الظلال البنية المحيطة بنا. سعينا إلى ظل شجرة لننصب خيامنا. لقد كان الهواء الرطب الساخن يدفعنا إلى الجنون في الوقت نفسه من كل يوم حين نشرع في نصب الخيام.
كانت هذه هي المرة الأولى التي لم يكن لدينا فيها مكانٌ للاستحمام، وعند هذه النقطة لم يكُن أحدٌ منا يهتم لذلك. لسبب غريب قررت في ذلك اليوم تعويض كمية المياه التي أشربها كل يوم. قبلها كنت أتجنَّب الشرب كثيراً لأن المراحيض الملائمة لم تكُن متوافرةً سوى في مناسبات نادرة. لم أكن أُدرك أنَّه لم يكُن لدينا سوى حُفَرٌ طويلة تعلوها مقاعد لنقضي حاجتنا؛ لذا يمكنك أن تتخيل جميع أنواع الحشرات التي تستقر في هذه الحُفَر. غنيٌ عن القول أنِّي اضطررت إلى زيارتها كثيراً. كنت أعرف أن هذا اليوم يقترب وبالنسبة لي كان ذلك تحدياً آخر تغلبت عليه.
وأثبتت لنا لعبة الكريكيت قبل غروب الشمس أنَّ «لولو» كان الشخص الوحيد بيننا الذي يمكنه رمي الكرة. بعد العشاء بدأنا الكلام الكبير بشأن محطتنا التالية: حديقة «أتوشا» الوطنية، وهي حديقة تبلغ مساحتها 22270 كيلومتراً مربعاً، تضم مئات الأنواع الحية.
وفي هذه المرَّة جرى تحذيرنا من مخاطر التخييم في البرية. كان مخيَّمنا على بُعد أمتار قليلة من فتحةٍ للمياه يشرب منها الأسود، ووحيد القرن، والزرافات، والفيلة، وغيرها الكثير. خفق قلبي حينها.
![mrymhraz](http://i.huffpost.com/gen/4167488/original.jpg)
![mrymhraz](http://i.huffpost.com/gen/4167498/original.jpg)
![mrymhraz](http://i.huffpost.com/gen/4167508/original.jpg)
** الصور من مدونة مريم حراز عن رحلتها إلى أفريقيا.. المزيد هنا، ويمكن زيارة حسابها على انستغرام هنا.
لقراءة الجزء الأول من هذه التدوينة يُرجى الضغط هنا
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.