مع تدفق اللاجئين إلى أوروبا وتزايد المخاوف الأمنية بعد هجمات بروكسل، يجاهد اللاجئون السوريون للتكيف في قرية ألمانية لا يتعاطف الكثير من سكانها مع الأجانب. على مدار أشهر عديدة دأب الصحفي والكاتب الأمريكي جيمس أنجيلوس المقيم في برلين على زيارة هذه القرية ليروي المحنة التي يمر بها اللاجئون السوريون وكذلك السكان المحليون، فاستمع إلى قصتهم كما نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
وبدأت المزاعم حول قيام الحكومة بتغطية ما يحدث تتزايد باستمرار. في مساء أحد أيام السبت، في مطعم بأحد الشوارع الرئيسية في "آيزن إيرست"، ردد الحاضرون الذين يتحدثون بلهجة بافارية كثيراً كلمة "لاجئين" وهم يتبادلون أطراف الحديث أثناء شرب البيرة. لم يَبد المتحدثون سعداء، على الرغم من أن الحديث في ألمانيا مع تناول الجعة يعتبر ثرثرة لا تؤخذ على محمل الجد. رئيس وزراء بافاريا، هوريست زيهوفر، الذي ينتقد سياسات ميركل تجاه اللاجئين بحدة، دائماً ما يُتهم بتناول تلك الجعة قبل الحديث عن آرائه، في إشاره لكونه يثرثر كثيراً، إلا أن الجالسين في المطعم بدوا أنهم يقولون ما يفكرون فيه بالفعل، وليس مجرد كلام غير جدي.
كان المطعم في ذلك الوقت يشعل إضاءة خافتة، ولم يكن هناك سوى طاولة واحدة مشغولة، حيث جلس عليها زوجان وزوجاتهما، بينهما زوجان يديران المطعم. حدقوا في وجهي في تعبير عن الحيرة الواضحة على وجوههم بسبب لحيتي السوداء، حتى أنني تساءلت دائماً إذا ما كان السكان المحليون يظنونني سورياً.
لم تكن النظرات التي أحظى بها دافئة في أغلب الأحيان. لم يكن المشهد مريحاً، ولكن لم يكن هناك فرصة للمغادرة. قلت لسيدة ترتدي زياً وردياً وتقوم بخدمة الزبائن: "هل يمكنني أن أحصل على شراب جعة؟".
في هذا الوقت، سأل أحد الزبائن: "من أين أنت؟"، هكذا سأل ذلك الرجل الطويل الأصلع والذي تعلو رأسه صورٌ للملك لودفيغ الثاني على الحائط. عندما أخبرته بأنني من الولايات المتحدة ابتسم وبدا وكأن كل شيء على ما يرام. قام الرجل بتقديم نفسه، ويدعى ميكائيل شولتز ويعمل سائق شاحنة، وأخبرني بأن هناك الكثير من اللاجئين القادمين عبر الحدود، وقال: "لهذا السبب سنتحول - الألمان - إلى أشرار مجدداً"، ثم قام بوضع يده على طريقة هتلر فيما بدا واضحاً ما يقصده للغاية.
بدأ شولتز في وصف شكواه، حيث كان يعاني من ألم في أحد أسنانه، واحتاج إلى خلعها وتركيب بديل، فاحتاج لدفع 2100 يورو من ماله الخاص، على الرغم من أنه يعمل ويدفع تأميناً صحياً على مدى عقود، في حين أن السوريين الذين يملأون شوارع ألمانيا حالياً- على حد وصفه - يحصلون على تلك الرعاية الصحية مجاناً، وفي مقابل ذلك، تزداد قيمة التأمين الصحي الذي يدفعه. كيف يكون هذا عادلاً؟ (عرفت بعد ذلك أن قيمة التأمين التي يدفعها المواطنون ارتفعت في بداية 2016، إلا أنها زيادة مثل السنوات السابقة تماماً، وليست بسبب طالبي اللجوء، كما أن مصاريف رعايتهم الصحية يتولاها قسم مختلف في الدولة).
وزعم أن طالبي اللجوء قاموا باغتصاب 3 سيدات في فرايسلانغ ( عمدة المدينة أكد أن هذا الأمر لم يحدث). رفيقة شولتز، التي كانت تجلس بجواره، قالت إن الشرطة لا تتحدث عن تلك الوقائع بسبب التزامها بالسرية. لم ترد الكشف عن اسمها وبدأت دموعها تنهمر عندما كشف شولتز عن اسمها، حيث كانت تخشى العواقب بشدة. قالت: "لا يمكنك أن تقول هذه الأشياء، لا توجد حرية للرأي"، وهنا أخبرها شولتز بأنه لا يهتم لذلك، وأنه قد سئم بالفعل، ثم التفت وقال إن البلدية تجهز أماكن لإعداد الطعام للاجئين، ثم سأل: "من يدفع ثمنها؟ أشعر بالغضب للغاية".
وهنا دخل ثنائي آخر إلى المطعم وجلسا على إحدى الطاولات، وقاما بطلب النقانق والبطاطا المحمرة، قبل أن يوافقا شولتز تماماً على ما قاله، ثم قال الرجل: "90% من هؤلاء القادمين ليسوا بلاجئين، لقد أتوا إلى هنا لأن لدينا المال، إنهم يرتدون سترات أديداس ويحملون هواتف آيفون، أنا أتجنب النظر إليهم لأنني أغضب بشدة".
أمسك شولتز كوب الجعة الخاصة به، ثم قال: "نخب زيهوفر، زيهوفر شخص جيد". لم يعني شولتز أيضاً أنه سيعطي زيهوفر صوته، حيث قال بأنه عادة لا يذهب للتصويت، إلا أنه في أقرب فرصة لذلك سيقوم بالتصويت للجمهوريين، وهو حزب هامشي تأسس في بافاريا في الثمانينيات ويتبع أيديولوجية معتدلة إلى حد ما، وقال حيث شولتز بأنه ليس لديه مشكلة مع الأجانب. وقال: في الواقع، فإن الأجيال الأقدم من المهاجرين القادمين من تركيا ويوغوسلافيا سابقاً ساعدوا في بناء ألمانيا من خلال عملهم "، إلا أن السوريين قد يدمرونها الآن". ولدى سؤاله إذا ما كان يظن أن أفكاره تتشابه مع الآخرين أم أنه يعتبر نفسه متشدداً، وهنا أجابت رفيقته بأنها كانت تعمل في مخزن لأدوات الطلاء في "فرايسلاسيانغ"، وأن الكثير من زبائنها يؤمنون بالأمر ذاته، وأضاف شولتز: "عندما ينفجر الناس، سترى ما سيحدث"، ثم أضاف قائلاً: "نحن الشعب".
بعد أشهر قليلة لاحقة، عُقدت الانتخابات في 3 ولايات، واستطاع فيها حزب البديل من أجل ألمانيا تحقيق نتائج جيدة للغاية. في ولاية ساكسونيا-أنهالت شرق ألمانيا، حل الحزب في المركز الثاني وحصد 24% من أصوات الناخبين. وفي ولايتي بادين فورتمبيرغ وراينلاند بالاتينات، وكلاهما في الغرب، حصل الحزب فيهما على 15% و13% على الترتيب، حيث تحولت حالة الخوف من المهاجرين إلى حركة سياسية ملموسة، وظهر بعض من الغضب الألماني.
في صباح أحد الأيام مع دخول فصل الربيع، قال كام - رئيس البلدية - من مكتبه إنه استمر وصول المزيد من طالبي اللجوء إلى المدينة. وقال بأن 20 باكستانياً حالياً ينتقلون إلى أحد أماكن الضيافة في إحدى القرى التابعة للبلدية. في هذا الوقت، كان الكثير من السوريين في "آيزن إيرست" قد بدأوا استقبال الموافقة على طلبات اللجوء، ما يعني أنه قد حان الوقت لينتقلوا للبحث عن عقارات والبحث عن وظائف وبدء حياتهم في ألمانيا. الكثير من السوريين غادروا المدينة ليلتحقوا بأصدقائهم وأقاربهم في المدن الأكبر ليحل محلهم وافدون سوريون جدد.
فضّل آخرون البقاء في بلدية زيكسدورف، لكونها الجزء الوحيد الذي يعرفون في ألمانيا، وهو ما خلق مجموعة من التحديات الجديدة تماماً، حيث يجب أن يجد رئيس البلدية طرقاً لتوفير سكن منخفض السعر وتسهيل دخولهم لسوق العمل، وفي الوقت نفسه بدا قلقاً للغاية حول انطباعات السكان المحليين. وتحدث عن بلدة قريبة دخل فيها المحليون في مواجهة مفتوحة مع المسؤولين المنتخبين ورفضوا إقامة طالبي اللجوء. على النقيض، الأمور في مدينته تبدو هادئة، إلا أن هذا الأمر من الممكن أن يتغير في لحظة إذا فعل أحد المهاجرين "شيئاً سيئاً"، على حد وصفه. وعندما سألته عما يقصده، أجاب: "الاغتصاب"، حيث تحدث كما لو كان الأمر واقعاً.
بعد أسابيع قليلة، بعد هجمات بروكسل تحديداً، لاحظ غراف فون ريشبيرغ ما وصفه بـ"زيادة الوعي" بين رعاياه. وفي الخميس المقدس، ألقى عظة تحدث فيها عن كيف يمكن للمسيحيين مواجهة مثل ذلك الظلام والشر الذي حدث في هجمات بروكسل، كما طلب من المصلين أن يصلّوا من أجل السلام، ومن أجل عدم الخوف من الغرباء، ومن أجل قبول اللاجئين.
أثناء تلك العظة، قام غراف فون ريشبيرغ بغسل قدمي طالب لجوء باكستاني، كما قام المسيح بغسل أقدام تلاميذه قبل صلبه. ولدى الحديث معه في وقت لاحق، بدا ريشبيرغ متخوفاً من مستقبل مظلم لألمانيا، فالمشكلات الاجتماعية والتعصب الذي أدى إلى هجمات بروكسل هي أمور لا يمكن حلها، على حد وصفه، إلا أنه من الواجب الروحي على الجميع أن يحاولوا. وعندما سألته إذا ما كان قام بزيارة اللاجئين وأعطاهم الهدايا بعد هجمات بروكسل كما فعل بعد هجمات باريس، أجاب بأن العنف قد أصبح روتيناً قاتماً، حيث قال: "لا يمكنني أن أذهب بعد كل هجوم".
في محل إقامة أخوات ماليرسدورفر السابق في أيزنيارت، واصل ياسر محاولة الانتقال للحياة الطبيعية في ألمانيا. في ديسمبر/كانون الأول، قام بيني بايلهاك باصطحاب ياسر لمقابلة اللجوء الخاصة به في ميونيخ، حيث استمرت الأسئلة على مدار ساعة. هل شهد ياسر قصفاً جوياً؟ (لا). هل قاتل من قبل إلى جانب الحكومة؟ (لا). هل قاتل إلى جانب داعش؟ (لا).
وبعد مضي عدة أسابيع تلقى ياسر رداً بحصوله على اللجوء. وفي الوقت الذي مازال فيه ياسر يفتقد زوجته ويتساءل كم من الوقت سيحتاج ليستقدمها، شعر بالتناقض حول ما يسمعه من أخبار. بدا بايلهاك وكأنه يحاول إبهاجه قدر الإمكان، فقد ساعد ياسر على ملء طلب استقدامها إلى ألمانيا ووجد له غرفة متواضعة في "أيزن إيرست"
حدثت عملية الانتقال في صباح مشمس لأحد أيام السبت، حيث قام بايلهاك وإيفيلين بتجميع الأشياء التي سيحتاجها ياسر وصولاً إلى أصغر التفاصيل الممكنة. جمعت إيفيلين ألواح التقطيع وقفاز الفرن وغيرها من الأشياء من مخزن مليء بالبضائع التي تبرّع بها السكان المحليون، وأحضر بايلهاك كراسي بلاستيكية وطاولة من أجل وضعها في الشرفة.
في هذا الصباح، بدا ياسر وكأنه لم ينم كثيراً. في اليوم السابق سأل ما إذا كان من اللائق، وفق العادات الألمانية، أن يطرق باب الجيران ويقوم بتعريفهم بأنفسهم، لكن لإيفيلين ، قالت: "هذا صعب للغاية، فبعض السكان يشتكون من انتقال السوريين"، وهنا قرر ياسر نسيان الأمر.
بعدما وصل إلى شقته الجديدة، وقف ياسر في الشرفة ونظر إلى المنظر الخارجي، حيث المنازل المجاورة وأشجار الصنوبر التي تغطي الرابية المجاورة. كان الوضع هادئاً، وكان ياسر يمازح بيني حول تعكير هذا الصفاء، لأنه قد يربي الدجاج في تلك الشرفة ويدعو السوريين لحفل في شقته. أمسك ياسر بيد ابن بيني، ويُدعى لوقكا، وبدأ يعلّمه رقصةً سورية، ثم قال هامساً مدعياً الصراخ بالكلمة: "الله أكبر"، وكان يمزح قائلاً إن الشرطة ستأتي في غضون دقيقة إذا قال تلك الكلمة.
بعدما غادر بيني ولوقكا، لم يعبأ ياسر بتفريغ حقائبه، بل جلس على الأريكة ثم قاد بالتحديق في ذلك البساط البرتقالي على الأرض. ولى سؤال عما يشعر به في منزله الجديد، فقال بأن هذا ليس منزلاً جديداً، وأن منزله في سوريا. يؤمن ياسر بأن ألمانيا أكثر ضيافة من أي دولة أوروبية أخرى، إلا أنه سيبقى غريباً فيها دائماً، فعندما يراه الناس يقولون إنه ليس ألمانياً.
وهنا خرج ياسر إلى الشرفة مجدداً ليدخن سيجارة ويطل على الحديقة في الأسفل. أحد الجيران، وهو رجل عجوز، ظهر على الطريق بالقرب من منزله، وقبل أن ينعطف عند الزاوية نظر الرجل إلى ياسر لوهلة، ثم نظر بعيداً دون أن يقول شيئاً.
- هذه المادة مترجمة بتصرف عن صحيفة The New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية يرجى الضغط هنا.
الألمان “الأشرار”
وبدأت المزاعم حول قيام الحكومة بتغطية ما يحدث تتزايد باستمرار. في مساء أحد أيام السبت، في مطعم بأحد الشوارع الرئيسية في "آيزن إيرست"، ردد الحاضرون الذين يتحدثون بلهجة بافارية كثيراً كلمة "لاجئين" وهم يتبادلون أطراف الحديث أثناء شرب البيرة. لم يَبد المتحدثون سعداء، على الرغم من أن الحديث في ألمانيا مع تناول الجعة يعتبر ثرثرة لا تؤخذ على محمل الجد. رئيس وزراء بافاريا، هوريست زيهوفر، الذي ينتقد سياسات ميركل تجاه اللاجئين بحدة، دائماً ما يُتهم بتناول تلك الجعة قبل الحديث عن آرائه، في إشاره لكونه يثرثر كثيراً، إلا أن الجالسين في المطعم بدوا أنهم يقولون ما يفكرون فيه بالفعل، وليس مجرد كلام غير جدي.
كان المطعم في ذلك الوقت يشعل إضاءة خافتة، ولم يكن هناك سوى طاولة واحدة مشغولة، حيث جلس عليها زوجان وزوجاتهما، بينهما زوجان يديران المطعم. حدقوا في وجهي في تعبير عن الحيرة الواضحة على وجوههم بسبب لحيتي السوداء، حتى أنني تساءلت دائماً إذا ما كان السكان المحليون يظنونني سورياً.
لم تكن النظرات التي أحظى بها دافئة في أغلب الأحيان. لم يكن المشهد مريحاً، ولكن لم يكن هناك فرصة للمغادرة. قلت لسيدة ترتدي زياً وردياً وتقوم بخدمة الزبائن: "هل يمكنني أن أحصل على شراب جعة؟".
في هذا الوقت، سأل أحد الزبائن: "من أين أنت؟"، هكذا سأل ذلك الرجل الطويل الأصلع والذي تعلو رأسه صورٌ للملك لودفيغ الثاني على الحائط. عندما أخبرته بأنني من الولايات المتحدة ابتسم وبدا وكأن كل شيء على ما يرام. قام الرجل بتقديم نفسه، ويدعى ميكائيل شولتز ويعمل سائق شاحنة، وأخبرني بأن هناك الكثير من اللاجئين القادمين عبر الحدود، وقال: "لهذا السبب سنتحول - الألمان - إلى أشرار مجدداً"، ثم قام بوضع يده على طريقة هتلر فيما بدا واضحاً ما يقصده للغاية.
بدأ شولتز في وصف شكواه، حيث كان يعاني من ألم في أحد أسنانه، واحتاج إلى خلعها وتركيب بديل، فاحتاج لدفع 2100 يورو من ماله الخاص، على الرغم من أنه يعمل ويدفع تأميناً صحياً على مدى عقود، في حين أن السوريين الذين يملأون شوارع ألمانيا حالياً- على حد وصفه - يحصلون على تلك الرعاية الصحية مجاناً، وفي مقابل ذلك، تزداد قيمة التأمين الصحي الذي يدفعه. كيف يكون هذا عادلاً؟ (عرفت بعد ذلك أن قيمة التأمين التي يدفعها المواطنون ارتفعت في بداية 2016، إلا أنها زيادة مثل السنوات السابقة تماماً، وليست بسبب طالبي اللجوء، كما أن مصاريف رعايتهم الصحية يتولاها قسم مختلف في الدولة).
وزعم أن طالبي اللجوء قاموا باغتصاب 3 سيدات في فرايسلانغ ( عمدة المدينة أكد أن هذا الأمر لم يحدث). رفيقة شولتز، التي كانت تجلس بجواره، قالت إن الشرطة لا تتحدث عن تلك الوقائع بسبب التزامها بالسرية. لم ترد الكشف عن اسمها وبدأت دموعها تنهمر عندما كشف شولتز عن اسمها، حيث كانت تخشى العواقب بشدة. قالت: "لا يمكنك أن تقول هذه الأشياء، لا توجد حرية للرأي"، وهنا أخبرها شولتز بأنه لا يهتم لذلك، وأنه قد سئم بالفعل، ثم التفت وقال إن البلدية تجهز أماكن لإعداد الطعام للاجئين، ثم سأل: "من يدفع ثمنها؟ أشعر بالغضب للغاية".
وهنا دخل ثنائي آخر إلى المطعم وجلسا على إحدى الطاولات، وقاما بطلب النقانق والبطاطا المحمرة، قبل أن يوافقا شولتز تماماً على ما قاله، ثم قال الرجل: "90% من هؤلاء القادمين ليسوا بلاجئين، لقد أتوا إلى هنا لأن لدينا المال، إنهم يرتدون سترات أديداس ويحملون هواتف آيفون، أنا أتجنب النظر إليهم لأنني أغضب بشدة".
أمسك شولتز كوب الجعة الخاصة به، ثم قال: "نخب زيهوفر، زيهوفر شخص جيد". لم يعني شولتز أيضاً أنه سيعطي زيهوفر صوته، حيث قال بأنه عادة لا يذهب للتصويت، إلا أنه في أقرب فرصة لذلك سيقوم بالتصويت للجمهوريين، وهو حزب هامشي تأسس في بافاريا في الثمانينيات ويتبع أيديولوجية معتدلة إلى حد ما، وقال حيث شولتز بأنه ليس لديه مشكلة مع الأجانب. وقال: في الواقع، فإن الأجيال الأقدم من المهاجرين القادمين من تركيا ويوغوسلافيا سابقاً ساعدوا في بناء ألمانيا من خلال عملهم "، إلا أن السوريين قد يدمرونها الآن". ولدى سؤاله إذا ما كان يظن أن أفكاره تتشابه مع الآخرين أم أنه يعتبر نفسه متشدداً، وهنا أجابت رفيقته بأنها كانت تعمل في مخزن لأدوات الطلاء في "فرايسلاسيانغ"، وأن الكثير من زبائنها يؤمنون بالأمر ذاته، وأضاف شولتز: "عندما ينفجر الناس، سترى ما سيحدث"، ثم أضاف قائلاً: "نحن الشعب".
الخوف من اللاجئين يتحول إلى حركة سياسية
بعد أشهر قليلة لاحقة، عُقدت الانتخابات في 3 ولايات، واستطاع فيها حزب البديل من أجل ألمانيا تحقيق نتائج جيدة للغاية. في ولاية ساكسونيا-أنهالت شرق ألمانيا، حل الحزب في المركز الثاني وحصد 24% من أصوات الناخبين. وفي ولايتي بادين فورتمبيرغ وراينلاند بالاتينات، وكلاهما في الغرب، حصل الحزب فيهما على 15% و13% على الترتيب، حيث تحولت حالة الخوف من المهاجرين إلى حركة سياسية ملموسة، وظهر بعض من الغضب الألماني.
في صباح أحد الأيام مع دخول فصل الربيع، قال كام - رئيس البلدية - من مكتبه إنه استمر وصول المزيد من طالبي اللجوء إلى المدينة. وقال بأن 20 باكستانياً حالياً ينتقلون إلى أحد أماكن الضيافة في إحدى القرى التابعة للبلدية. في هذا الوقت، كان الكثير من السوريين في "آيزن إيرست" قد بدأوا استقبال الموافقة على طلبات اللجوء، ما يعني أنه قد حان الوقت لينتقلوا للبحث عن عقارات والبحث عن وظائف وبدء حياتهم في ألمانيا. الكثير من السوريين غادروا المدينة ليلتحقوا بأصدقائهم وأقاربهم في المدن الأكبر ليحل محلهم وافدون سوريون جدد.
فضّل آخرون البقاء في بلدية زيكسدورف، لكونها الجزء الوحيد الذي يعرفون في ألمانيا، وهو ما خلق مجموعة من التحديات الجديدة تماماً، حيث يجب أن يجد رئيس البلدية طرقاً لتوفير سكن منخفض السعر وتسهيل دخولهم لسوق العمل، وفي الوقت نفسه بدا قلقاً للغاية حول انطباعات السكان المحليين. وتحدث عن بلدة قريبة دخل فيها المحليون في مواجهة مفتوحة مع المسؤولين المنتخبين ورفضوا إقامة طالبي اللجوء. على النقيض، الأمور في مدينته تبدو هادئة، إلا أن هذا الأمر من الممكن أن يتغير في لحظة إذا فعل أحد المهاجرين "شيئاً سيئاً"، على حد وصفه. وعندما سألته عما يقصده، أجاب: "الاغتصاب"، حيث تحدث كما لو كان الأمر واقعاً.
بعد أسابيع قليلة، بعد هجمات بروكسل تحديداً، لاحظ غراف فون ريشبيرغ ما وصفه بـ"زيادة الوعي" بين رعاياه. وفي الخميس المقدس، ألقى عظة تحدث فيها عن كيف يمكن للمسيحيين مواجهة مثل ذلك الظلام والشر الذي حدث في هجمات بروكسل، كما طلب من المصلين أن يصلّوا من أجل السلام، ومن أجل عدم الخوف من الغرباء، ومن أجل قبول اللاجئين.
أثناء تلك العظة، قام غراف فون ريشبيرغ بغسل قدمي طالب لجوء باكستاني، كما قام المسيح بغسل أقدام تلاميذه قبل صلبه. ولدى الحديث معه في وقت لاحق، بدا ريشبيرغ متخوفاً من مستقبل مظلم لألمانيا، فالمشكلات الاجتماعية والتعصب الذي أدى إلى هجمات بروكسل هي أمور لا يمكن حلها، على حد وصفه، إلا أنه من الواجب الروحي على الجميع أن يحاولوا. وعندما سألته إذا ما كان قام بزيارة اللاجئين وأعطاهم الهدايا بعد هجمات بروكسل كما فعل بعد هجمات باريس، أجاب بأن العنف قد أصبح روتيناً قاتماً، حيث قال: "لا يمكنني أن أذهب بعد كل هجوم".
غرباء حتى النهاية
في محل إقامة أخوات ماليرسدورفر السابق في أيزنيارت، واصل ياسر محاولة الانتقال للحياة الطبيعية في ألمانيا. في ديسمبر/كانون الأول، قام بيني بايلهاك باصطحاب ياسر لمقابلة اللجوء الخاصة به في ميونيخ، حيث استمرت الأسئلة على مدار ساعة. هل شهد ياسر قصفاً جوياً؟ (لا). هل قاتل من قبل إلى جانب الحكومة؟ (لا). هل قاتل إلى جانب داعش؟ (لا).
وبعد مضي عدة أسابيع تلقى ياسر رداً بحصوله على اللجوء. وفي الوقت الذي مازال فيه ياسر يفتقد زوجته ويتساءل كم من الوقت سيحتاج ليستقدمها، شعر بالتناقض حول ما يسمعه من أخبار. بدا بايلهاك وكأنه يحاول إبهاجه قدر الإمكان، فقد ساعد ياسر على ملء طلب استقدامها إلى ألمانيا ووجد له غرفة متواضعة في "أيزن إيرست"
حدثت عملية الانتقال في صباح مشمس لأحد أيام السبت، حيث قام بايلهاك وإيفيلين بتجميع الأشياء التي سيحتاجها ياسر وصولاً إلى أصغر التفاصيل الممكنة. جمعت إيفيلين ألواح التقطيع وقفاز الفرن وغيرها من الأشياء من مخزن مليء بالبضائع التي تبرّع بها السكان المحليون، وأحضر بايلهاك كراسي بلاستيكية وطاولة من أجل وضعها في الشرفة.
في هذا الصباح، بدا ياسر وكأنه لم ينم كثيراً. في اليوم السابق سأل ما إذا كان من اللائق، وفق العادات الألمانية، أن يطرق باب الجيران ويقوم بتعريفهم بأنفسهم، لكن لإيفيلين ، قالت: "هذا صعب للغاية، فبعض السكان يشتكون من انتقال السوريين"، وهنا قرر ياسر نسيان الأمر.
بعدما وصل إلى شقته الجديدة، وقف ياسر في الشرفة ونظر إلى المنظر الخارجي، حيث المنازل المجاورة وأشجار الصنوبر التي تغطي الرابية المجاورة. كان الوضع هادئاً، وكان ياسر يمازح بيني حول تعكير هذا الصفاء، لأنه قد يربي الدجاج في تلك الشرفة ويدعو السوريين لحفل في شقته. أمسك ياسر بيد ابن بيني، ويُدعى لوقكا، وبدأ يعلّمه رقصةً سورية، ثم قال هامساً مدعياً الصراخ بالكلمة: "الله أكبر"، وكان يمزح قائلاً إن الشرطة ستأتي في غضون دقيقة إذا قال تلك الكلمة.
بعدما غادر بيني ولوقكا، لم يعبأ ياسر بتفريغ حقائبه، بل جلس على الأريكة ثم قاد بالتحديق في ذلك البساط البرتقالي على الأرض. ولى سؤال عما يشعر به في منزله الجديد، فقال بأن هذا ليس منزلاً جديداً، وأن منزله في سوريا. يؤمن ياسر بأن ألمانيا أكثر ضيافة من أي دولة أوروبية أخرى، إلا أنه سيبقى غريباً فيها دائماً، فعندما يراه الناس يقولون إنه ليس ألمانياً.
وهنا خرج ياسر إلى الشرفة مجدداً ليدخن سيجارة ويطل على الحديقة في الأسفل. أحد الجيران، وهو رجل عجوز، ظهر على الطريق بالقرب من منزله، وقبل أن ينعطف عند الزاوية نظر الرجل إلى ياسر لوهلة، ثم نظر بعيداً دون أن يقول شيئاً.
- هذه المادة مترجمة بتصرف عن صحيفة The New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية يرجى الضغط هنا.