كنت كأني مراهق أسير وراء مراهق ، نُسر إلى بعضنا البعض أسرار الحب ، أتبعني سأحكي لك ، قالها غير مكترث بكل من يحيط بنا ويتبعنا ، أنظر هذه هي سارية الكنيسة ، في مقابلها يطل بيت حبيبتي ، كانت جميلة جدا ، كلما دق جرس الكنيسة خرجت إلى شرفتها ، فأخرج أنا لأنظر إليها ، نتبادل الأبتسامة ، ثم نعاود الأمر مع قرع الجرس من جديد ، قالها ثم أطرق ينظر إلى الأرض طويلا ، وكأنه يستعيد سرا دفينا
عندما كنت على القارب أتبادل الحديث معه ، أردت أن أفاتحه في هذا الموضوع ، حبه الأول ، لكن خشيت أن يغضب ، أني أتجاهل القضايا الرئيسية وأحدث كهلا أقترب من التسعين من عمره عن حبه الأول ، وصيت مترجمي أن يتطلف إلى أقصى حد وهو يطلب منه ذلك ، ولأن الرجل عصبي المزاج فكنت أخشى أن يقذف بنا إلى قاع بحيرة نيكاراجوا الكبرى
على العكس توهج وجه الرجل ، وبدا فجأة أصغر من عمره كثيرا ، وأنطلق يتحدث عن حبيبته ، التي وقع في غرامها منذ أكثر من ستين عاما ، قبل أن يفترقا لاحقا ، بل حدثني عن اللحظة التي رآها ، أول مرة وقع نظره عليها ، عندما كان عمره ثمانية عشر عاما ، وعمرها ثلاثة عشر عاما
هذا العجوز إذا مازال صبيا عاشقا ، قلت في نفسي ، لكني سألت سعيد المترجم ، هل يمكن أن يقرأ لنا الرجل قصيدة من تلك القصائد التي نظمها فيها ، فالعاشق شاعر أيضا ، تحمس صاحبنا جدا لفكرتنا ، وبدأ يقرأ شيئا من قصيدته
لا زلت أتذكر
تلك الشوارع بأنوارها الصفراء
وذلك البدر بين الأسلاك الكهربائية
وتلك النجمة عند المنعطف
ومذياع بعيد
وبرج المرثيد الذي كان يعلن الحادية عشرة
والضوء المذهب من بابك
المفتوح على هذا الشارع
تفقد القصيدة نصف معانيها عندما تترجم ، نعم ثمة معان تغتالها الترجمة ، لكن ما دمنا في الشعر والقصيدة ، وما دام هو من أشهر شعراء نيكاراجوا ، فلما لا يحدثنا عن هذا النوع من القصائد التي أبدعها وأشتهر بها ، إنها توثق تاريخ وحاضر نيكاراغوا وأمريكا الوسطي عبر حكايات الناس والأحداث وتصويرها لدقائق الأمور، حتى أن النقاد شبهوا هذا النوع من القصائد الذي أبتدعه بالفيلم الوثائقي ، واطلقوا عليها اسم "القصائد الوثائقية"
أركب معه "الحنطور" ، تلك العربة التي يجرها حصان ، لا أعرف ماذا تسمى بالعربية الفصحى ، كان ذلك في الشهر الأخير من عام ألفين وسبعة ، تسير بنا العربة في شوارع غرناطة ، وهذه غرناطة أخرى غير غرناطة أسبانيا ، تبعد خمسين كيلو مترا إلى الجنوب من العاصمة ماناغوا ، يعيش بها مائة ألف نسمة ، معظم أثرياء البلاد أختاروها للسكنى ، أسست عام ألف وخمسمائة وأربعة وعشرين ، واحدة من أقدم المدن اللاتينية ، البنايات القصيرة المزخرفة ذات النقوش الجميلة تحيط بك ، وتحيط بك أيضا ابتسامات الناس ولطفهم حتى تحسبهم شعبا آخر غير الذي يسكن العاصمة التي بها فندقي
جاري في الحنطور ليس شاعرا عاشقا فحسب وإنما هو ثائر أيضا ، ولد هنا في هذه المدينة في العشرين من يناير عام خمسة وعشرين ، والذي يولد هنا برأيي يجب أن يكون شاعرا ، محبا للجمال ، كارها للظلم ، محاربا للظالمين ، فما بالك وقد درس الفلسفة والآداب في ليون وماناغوا والمكسيك ونيويورك
في أحد الأيام سأل نفسه هل يهزم الشعر الديكتاتور ، ثم لجأ إلى ما هو غير الشعر ، فاشترك في محاولة لإسقاط حكم سوموزا عام أربعة وخمسين ، وبسبب خيانة اكتشفت الخطة ، ولكنه تمكن من الهرب ونجا مما أصاب أقرانه من سجن وتعذيب حتى الموت ، لكن بعد ذلك بعامين تمكن شاعر آخر من قتل سوموزا، ويبدو أن الشعراء هنا يحترفون الحرف والرصاصة ، وحينها أتم قصيدته "ساعة الصفر" ، ومنها :
تلك القصيدة التي ولدت مع مولدي عام ستة وخمسين
أمريكا الوسطى لياليها استوائية
بحيرات وبراكين تحت القمر
أضواء قصور رئاسية وثكنات
صفارات حظر تجول
حزينة سان سلفادور تحت جنح الظلام
والشعب في الخارج يفرق بالقنابل الفوسفورية
الفلاحون مطعون موزهم
والمضربون بالرصاص يكبح جماحهم
تجسس على الهمسات في المنازل والفنادق
وصراخ في مراكز الشرطة
ماناغوا (عاصمة نيكاراجوا ) مصوبة نحوها المدافع الرشاشة
من داخل قصر الكعك والشيكولاتة
وخوذ الحديد الصلب تعس الشوارع
حرس ! في أي ساعة من الليل نحن
حرس ! في أي ساعة من الليل نحن
كنا نتعامل معه بحذر شديد ، فهو فائق الحساسية ، وأي أمر تافه كفيل بإغضابه ودفعه إلى التوقف عن استكمال التصوير ، لكن من حسناته إنه مثلي يحب شرب القهوة الأسبرسو ، فكنت أتحجج به لأطلب المزيد
قال لي أنه لاحقا وبعد مقتل الديكتاتور الذي خلفه أبنه لويس سوموزا ، الذي فاقه دموية ، أنه مر بأزمة روحية عميقة غيرت حياته ، وقرر أن ينبذ العنف الثوري وينخرط في سلك الكهنوت ، نعم فهذا الرجل العجيب كان قسا ، وأذكر ما قاله للآخرين : إذا ما سألتني من هو الله بالنسبة إلي لذكرت لك بصدق إنه من أتواصل وأتفق معه ، كان الله هو من مضى بي إلى الدير حيث كنت على يقين أن قدري سيكون حياة صمت كلي غير أنه أخرجني كي يدفع بي إلى مجتمع مختلف تماما ، ومن ثم إلى اندماج في حركة مسلحة وكفاح من أجل التحرير ، وبعد ذلك إلى شيء لم أكن أتخيله قط ، وهو تحمل مسؤولية وزارية في الحكومة وأرى أن هذا طريق واحد ، فمنذ الصمت الذي كان يخيم على نظام الدير إلى مسؤولية وزارة الثقافة ، كنت كمن يطيع إرادة ما ، ولكن بما أنكم تسألونني عن الله ، لكوني ماركسيا ، فإني أعتبره قوة التحولات الاجتماعية ، وقوة الثورات ، وبكلمات أخرى إنه قوة المحبة ، وهذا هو تصور الكتاب المقدس لله
أوكان ماركسيا !؟ ، نعم ويبدو أن هذا الرجل كان كل شئ ، لقد جمع بين الثورة والماركسية والدين والشعر والعشق ، وكانت له مفاهيمه الخاصة عن كل منها ، ففي نظره جاء السيد المسيح ليقول لنا إن المملكة الكاملة جاءت معه ، وهذا في نظره هو ذات ما عبر عنه ماركس بالشيوعية الكاملة ، فلا عجب إذن أن يكتشف رجال الدين من معتنقي لاهوت التحرير أنه بإمكانهم أن يكونوا ماركسيين ومسيحيين في نفس الوقت
في الشهر السابع من عام تسعة وسبعين اندلعت في نيكاراجوا "الثورة الساندينية" التي قضت علي حكم "سوموزا" الديكتاتور الأبن ، ووصلت الجبهة الساندينية للتحرر الوطني إلي السلطة، وتبوأ الرجل كان أحد أهم قادتها الميدانيين مهمة وزير الثقافة ، لكنه لاحقا أنتقد سلوك الرئيس الحالي لنيكاراجوا "دانييال أورتيغا" ، وتمرد عليه وأصبح معارضا له ، وربما كانت لقاءاتنا مع هذا الرجل سببا في إزعاج أورتيغا الذي أمر بطردنا من البلاد بعد أن كنا ننسق مع مساعديه للقائه
أورتيغا هو الذي قال مرة : أن كاسترو قال له لا تنس ثلاثة دروس : لا تقاتل ضد الكنيسة والمسيحية ، بل بالعكس اعمل مع القساوسة الثوريين ، لا تقاتل أصحاب المصانع والمزارع الكبيرة ، ولا تقاتل بشكل صريح الحكومة الأمريكية فهي قادرة على خلق مشاكل كثيرة لنيكاراغوا "
يعيش صاحبنا حاليا في جزيرة "ماناكرون"، وهي مقر الكنيسة التي كان هو راعيها، وقصفتها طائرات سوموزا عام سبعة وستين ، عندما تكشف دوره في محاولة الانقلاب الفاشلة ، لكننا تنقلنا معه في عدة أماكن وهو يحكي لنا حكايته
عند تمثال ملهم الثورة وأبوها الروحي قال لي : بعد عودتي إلى نيكاراغوا من أمريكا صممت هذا النموذج لساندينو ، وصنع هذا التمثال بطول ثماني عشر متراً من الصلب ، وقد أخترنا هذا المكان بعناية ، فهو منطقة نموذجية لحكم عائلة الدكتاتور سوموزا ، وذلك حتى يظل التاريخ يذكر أن سوموزا قد اغتال ساندينو ، ثم بعد خمسين عاماً عاد ساندينو إلى نفس المكان الذي كان يعبر عن هيمنة سوموزا
قلت في نفسي هنيئا له أحتفاء العالم به شاعرا وثوريا وقسا ، ولو كان عندنا ، لكفره المتدينون ، وأدانته السلطة ، ولفظه الشعراء ، لكن لا بأس أن أسأله كيف جمع بينهم ؟
بطريقة ما ، فتلك الأشياء لم تكن مجتمعة في البداية ، قال لي ثم أردف ، فقد كانت بمثابة نزعات متباينة ، ولكن ما يمكن قوله انها أصبحت بعد ذلك نزعة واحدة ، كوني شاعراً هو ما قربني إلى الرب للتأمل فيه وفي روعته ، ثم أرتباطي به هو ما جعلني أهب نفسي للأخرين من شعبي ، من هنا كان انضمامي للثورة لخدمة الشعب ، حينئذ أصبحت شاعراً من أجل الرب وأصبحت ثورياً من أجل خدمة الشعب
لكن كيف جمعت إذا بين الماركسية والمسيحية ، أجاب بالنسبة لي يوجد شيء يربط بينهما وهو الرغبة في تغيير المجتمع بخلق عالم جديد ، نحن كمسيحيين مقصدنا هو تحقيق العدالة وخلق عالم افضل ، أما الماركسية فهي الطريقة إلى بلوغ هذا المقصد
لكنك يا سيدي متصوف ، حسناً كان تناولي لمعنى الإله من النظرة المتصوفة ، والدين والتصوف يختلفان في أكثر الأحيان حتى عندكم في الإسلام ، هناك في الدير حيث عشت لم يكن هناك صحف ، لم يكن هناك تلفاز ، لم يكن هناك مذياع ، لم نكن نأكل اللحم ولا البيض ولا السمك ، ولم نكن نتواصل بالكلام ولكن بالإشارات ، نعيش في صمت ، وقد كان يروق لي ذلك الصمت ، كنت أبدأ يومي في وقت مبكر جداً في الثانية صباحاً كل يوم ، أنها تقاليد منذ قرون عديدة ، كانت نزعتي أن اكون راهباً ، لكني بعد ذلك لم أستطيع المواصلة هناك لأسباب صحية ، الأمر الذي جعلني اختار حياة دينية مختلفة عن حياتي التأملية في أمريكا الشمالية بتطبيق أمر ديني في دير اخر ، فقد كانت رؤيتي لمفهوم القس ذات نظرة تأملية متحررة من تلك الواجبات الدينية
ضيقت عليه وتوقعت غضبه ، والآن هل أنت مازلت مؤمنا ، لم يفهم مترجمي من همهماته شيئا سوى أنه أبتعد عن هذا الشأن كله دون رد حاسم
بعضنا حياته عاصفة ، لكنني لم أر مثل إرنستو كاردينال ، وكاردينال لقبه وليس صفته ، لقد تمرد على كل شئ وثار ضد كل شئ وأحب كل شئ ، ولم يهدأ لحظة في حياته ، التي قضاها كلها ثائرا عاشقا ، لحبيبته ، لبلاده ، لمبادئه
عدت إلى فندقي ، فتحت جهاز الكومبيوتر الخاص بي ، سألت ما معنى متلازمة ، قال جوجل شاكرا هي مجموعة من الأعراض والعلامات المتزامنة ذات المصدر الواحد وتسمى في الطب النفسي المتلازمة مثل كذا وكذا وكذا ، وأكملت أنا نعم ، وربما مثل متلازمة العشق والثورة !
عندما كنت على القارب أتبادل الحديث معه ، أردت أن أفاتحه في هذا الموضوع ، حبه الأول ، لكن خشيت أن يغضب ، أني أتجاهل القضايا الرئيسية وأحدث كهلا أقترب من التسعين من عمره عن حبه الأول ، وصيت مترجمي أن يتطلف إلى أقصى حد وهو يطلب منه ذلك ، ولأن الرجل عصبي المزاج فكنت أخشى أن يقذف بنا إلى قاع بحيرة نيكاراجوا الكبرى
على العكس توهج وجه الرجل ، وبدا فجأة أصغر من عمره كثيرا ، وأنطلق يتحدث عن حبيبته ، التي وقع في غرامها منذ أكثر من ستين عاما ، قبل أن يفترقا لاحقا ، بل حدثني عن اللحظة التي رآها ، أول مرة وقع نظره عليها ، عندما كان عمره ثمانية عشر عاما ، وعمرها ثلاثة عشر عاما
هذا العجوز إذا مازال صبيا عاشقا ، قلت في نفسي ، لكني سألت سعيد المترجم ، هل يمكن أن يقرأ لنا الرجل قصيدة من تلك القصائد التي نظمها فيها ، فالعاشق شاعر أيضا ، تحمس صاحبنا جدا لفكرتنا ، وبدأ يقرأ شيئا من قصيدته
لا زلت أتذكر
تلك الشوارع بأنوارها الصفراء
وذلك البدر بين الأسلاك الكهربائية
وتلك النجمة عند المنعطف
ومذياع بعيد
وبرج المرثيد الذي كان يعلن الحادية عشرة
والضوء المذهب من بابك
المفتوح على هذا الشارع
تفقد القصيدة نصف معانيها عندما تترجم ، نعم ثمة معان تغتالها الترجمة ، لكن ما دمنا في الشعر والقصيدة ، وما دام هو من أشهر شعراء نيكاراجوا ، فلما لا يحدثنا عن هذا النوع من القصائد التي أبدعها وأشتهر بها ، إنها توثق تاريخ وحاضر نيكاراغوا وأمريكا الوسطي عبر حكايات الناس والأحداث وتصويرها لدقائق الأمور، حتى أن النقاد شبهوا هذا النوع من القصائد الذي أبتدعه بالفيلم الوثائقي ، واطلقوا عليها اسم "القصائد الوثائقية"
أركب معه "الحنطور" ، تلك العربة التي يجرها حصان ، لا أعرف ماذا تسمى بالعربية الفصحى ، كان ذلك في الشهر الأخير من عام ألفين وسبعة ، تسير بنا العربة في شوارع غرناطة ، وهذه غرناطة أخرى غير غرناطة أسبانيا ، تبعد خمسين كيلو مترا إلى الجنوب من العاصمة ماناغوا ، يعيش بها مائة ألف نسمة ، معظم أثرياء البلاد أختاروها للسكنى ، أسست عام ألف وخمسمائة وأربعة وعشرين ، واحدة من أقدم المدن اللاتينية ، البنايات القصيرة المزخرفة ذات النقوش الجميلة تحيط بك ، وتحيط بك أيضا ابتسامات الناس ولطفهم حتى تحسبهم شعبا آخر غير الذي يسكن العاصمة التي بها فندقي
جاري في الحنطور ليس شاعرا عاشقا فحسب وإنما هو ثائر أيضا ، ولد هنا في هذه المدينة في العشرين من يناير عام خمسة وعشرين ، والذي يولد هنا برأيي يجب أن يكون شاعرا ، محبا للجمال ، كارها للظلم ، محاربا للظالمين ، فما بالك وقد درس الفلسفة والآداب في ليون وماناغوا والمكسيك ونيويورك
في أحد الأيام سأل نفسه هل يهزم الشعر الديكتاتور ، ثم لجأ إلى ما هو غير الشعر ، فاشترك في محاولة لإسقاط حكم سوموزا عام أربعة وخمسين ، وبسبب خيانة اكتشفت الخطة ، ولكنه تمكن من الهرب ونجا مما أصاب أقرانه من سجن وتعذيب حتى الموت ، لكن بعد ذلك بعامين تمكن شاعر آخر من قتل سوموزا، ويبدو أن الشعراء هنا يحترفون الحرف والرصاصة ، وحينها أتم قصيدته "ساعة الصفر" ، ومنها :
تلك القصيدة التي ولدت مع مولدي عام ستة وخمسين
أمريكا الوسطى لياليها استوائية
بحيرات وبراكين تحت القمر
أضواء قصور رئاسية وثكنات
صفارات حظر تجول
حزينة سان سلفادور تحت جنح الظلام
والشعب في الخارج يفرق بالقنابل الفوسفورية
الفلاحون مطعون موزهم
والمضربون بالرصاص يكبح جماحهم
تجسس على الهمسات في المنازل والفنادق
وصراخ في مراكز الشرطة
ماناغوا (عاصمة نيكاراجوا ) مصوبة نحوها المدافع الرشاشة
من داخل قصر الكعك والشيكولاتة
وخوذ الحديد الصلب تعس الشوارع
حرس ! في أي ساعة من الليل نحن
حرس ! في أي ساعة من الليل نحن
كنا نتعامل معه بحذر شديد ، فهو فائق الحساسية ، وأي أمر تافه كفيل بإغضابه ودفعه إلى التوقف عن استكمال التصوير ، لكن من حسناته إنه مثلي يحب شرب القهوة الأسبرسو ، فكنت أتحجج به لأطلب المزيد
قال لي أنه لاحقا وبعد مقتل الديكتاتور الذي خلفه أبنه لويس سوموزا ، الذي فاقه دموية ، أنه مر بأزمة روحية عميقة غيرت حياته ، وقرر أن ينبذ العنف الثوري وينخرط في سلك الكهنوت ، نعم فهذا الرجل العجيب كان قسا ، وأذكر ما قاله للآخرين : إذا ما سألتني من هو الله بالنسبة إلي لذكرت لك بصدق إنه من أتواصل وأتفق معه ، كان الله هو من مضى بي إلى الدير حيث كنت على يقين أن قدري سيكون حياة صمت كلي غير أنه أخرجني كي يدفع بي إلى مجتمع مختلف تماما ، ومن ثم إلى اندماج في حركة مسلحة وكفاح من أجل التحرير ، وبعد ذلك إلى شيء لم أكن أتخيله قط ، وهو تحمل مسؤولية وزارية في الحكومة وأرى أن هذا طريق واحد ، فمنذ الصمت الذي كان يخيم على نظام الدير إلى مسؤولية وزارة الثقافة ، كنت كمن يطيع إرادة ما ، ولكن بما أنكم تسألونني عن الله ، لكوني ماركسيا ، فإني أعتبره قوة التحولات الاجتماعية ، وقوة الثورات ، وبكلمات أخرى إنه قوة المحبة ، وهذا هو تصور الكتاب المقدس لله
أوكان ماركسيا !؟ ، نعم ويبدو أن هذا الرجل كان كل شئ ، لقد جمع بين الثورة والماركسية والدين والشعر والعشق ، وكانت له مفاهيمه الخاصة عن كل منها ، ففي نظره جاء السيد المسيح ليقول لنا إن المملكة الكاملة جاءت معه ، وهذا في نظره هو ذات ما عبر عنه ماركس بالشيوعية الكاملة ، فلا عجب إذن أن يكتشف رجال الدين من معتنقي لاهوت التحرير أنه بإمكانهم أن يكونوا ماركسيين ومسيحيين في نفس الوقت
في الشهر السابع من عام تسعة وسبعين اندلعت في نيكاراجوا "الثورة الساندينية" التي قضت علي حكم "سوموزا" الديكتاتور الأبن ، ووصلت الجبهة الساندينية للتحرر الوطني إلي السلطة، وتبوأ الرجل كان أحد أهم قادتها الميدانيين مهمة وزير الثقافة ، لكنه لاحقا أنتقد سلوك الرئيس الحالي لنيكاراجوا "دانييال أورتيغا" ، وتمرد عليه وأصبح معارضا له ، وربما كانت لقاءاتنا مع هذا الرجل سببا في إزعاج أورتيغا الذي أمر بطردنا من البلاد بعد أن كنا ننسق مع مساعديه للقائه
أورتيغا هو الذي قال مرة : أن كاسترو قال له لا تنس ثلاثة دروس : لا تقاتل ضد الكنيسة والمسيحية ، بل بالعكس اعمل مع القساوسة الثوريين ، لا تقاتل أصحاب المصانع والمزارع الكبيرة ، ولا تقاتل بشكل صريح الحكومة الأمريكية فهي قادرة على خلق مشاكل كثيرة لنيكاراغوا "
يعيش صاحبنا حاليا في جزيرة "ماناكرون"، وهي مقر الكنيسة التي كان هو راعيها، وقصفتها طائرات سوموزا عام سبعة وستين ، عندما تكشف دوره في محاولة الانقلاب الفاشلة ، لكننا تنقلنا معه في عدة أماكن وهو يحكي لنا حكايته
عند تمثال ملهم الثورة وأبوها الروحي قال لي : بعد عودتي إلى نيكاراغوا من أمريكا صممت هذا النموذج لساندينو ، وصنع هذا التمثال بطول ثماني عشر متراً من الصلب ، وقد أخترنا هذا المكان بعناية ، فهو منطقة نموذجية لحكم عائلة الدكتاتور سوموزا ، وذلك حتى يظل التاريخ يذكر أن سوموزا قد اغتال ساندينو ، ثم بعد خمسين عاماً عاد ساندينو إلى نفس المكان الذي كان يعبر عن هيمنة سوموزا
قلت في نفسي هنيئا له أحتفاء العالم به شاعرا وثوريا وقسا ، ولو كان عندنا ، لكفره المتدينون ، وأدانته السلطة ، ولفظه الشعراء ، لكن لا بأس أن أسأله كيف جمع بينهم ؟
بطريقة ما ، فتلك الأشياء لم تكن مجتمعة في البداية ، قال لي ثم أردف ، فقد كانت بمثابة نزعات متباينة ، ولكن ما يمكن قوله انها أصبحت بعد ذلك نزعة واحدة ، كوني شاعراً هو ما قربني إلى الرب للتأمل فيه وفي روعته ، ثم أرتباطي به هو ما جعلني أهب نفسي للأخرين من شعبي ، من هنا كان انضمامي للثورة لخدمة الشعب ، حينئذ أصبحت شاعراً من أجل الرب وأصبحت ثورياً من أجل خدمة الشعب
لكن كيف جمعت إذا بين الماركسية والمسيحية ، أجاب بالنسبة لي يوجد شيء يربط بينهما وهو الرغبة في تغيير المجتمع بخلق عالم جديد ، نحن كمسيحيين مقصدنا هو تحقيق العدالة وخلق عالم افضل ، أما الماركسية فهي الطريقة إلى بلوغ هذا المقصد
لكنك يا سيدي متصوف ، حسناً كان تناولي لمعنى الإله من النظرة المتصوفة ، والدين والتصوف يختلفان في أكثر الأحيان حتى عندكم في الإسلام ، هناك في الدير حيث عشت لم يكن هناك صحف ، لم يكن هناك تلفاز ، لم يكن هناك مذياع ، لم نكن نأكل اللحم ولا البيض ولا السمك ، ولم نكن نتواصل بالكلام ولكن بالإشارات ، نعيش في صمت ، وقد كان يروق لي ذلك الصمت ، كنت أبدأ يومي في وقت مبكر جداً في الثانية صباحاً كل يوم ، أنها تقاليد منذ قرون عديدة ، كانت نزعتي أن اكون راهباً ، لكني بعد ذلك لم أستطيع المواصلة هناك لأسباب صحية ، الأمر الذي جعلني اختار حياة دينية مختلفة عن حياتي التأملية في أمريكا الشمالية بتطبيق أمر ديني في دير اخر ، فقد كانت رؤيتي لمفهوم القس ذات نظرة تأملية متحررة من تلك الواجبات الدينية
ضيقت عليه وتوقعت غضبه ، والآن هل أنت مازلت مؤمنا ، لم يفهم مترجمي من همهماته شيئا سوى أنه أبتعد عن هذا الشأن كله دون رد حاسم
بعضنا حياته عاصفة ، لكنني لم أر مثل إرنستو كاردينال ، وكاردينال لقبه وليس صفته ، لقد تمرد على كل شئ وثار ضد كل شئ وأحب كل شئ ، ولم يهدأ لحظة في حياته ، التي قضاها كلها ثائرا عاشقا ، لحبيبته ، لبلاده ، لمبادئه
عدت إلى فندقي ، فتحت جهاز الكومبيوتر الخاص بي ، سألت ما معنى متلازمة ، قال جوجل شاكرا هي مجموعة من الأعراض والعلامات المتزامنة ذات المصدر الواحد وتسمى في الطب النفسي المتلازمة مثل كذا وكذا وكذا ، وأكملت أنا نعم ، وربما مثل متلازمة العشق والثورة !
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.