عثمان رجل عاميّ وسائق أجرة.. يمضي يومه كله يبحث عن رزقه وقوت يومه، يخرج باكراً كل يوم كما تخرج العصافير من أعشاشها ثم يعود إلى أهله في الليل مسروراً وقد أدى ما عليه وسعى إلى رزقه مثلما تقوده الفطرة إلى ذلك، ثم يستيقظ في الغد مثل أمسه ليكرر العملية نفسها.
لا يدرك عثمان من أحوال الدنيا إلا ما تدركه جدته من تقنية النانو، ودخله ربما يزيد في بعض الأحيان على دخل صاحبه الذي تخرج من الجامعة وأصبح موظفاً مرموقاً في إحدى المؤسسات العلمية.
يغبط عثمان صاحبه أحيانا وفي أحايين أخرى كثيرة يرى أنه أفضل من صاحبه رغم فارق المنزلة الاجتماعية بينهما، ورغم أن هندامه وشكله ليس كمثل صاحبه، إلا أنه يقول دائما إنه يعرف قدره ويعرف ما له وما عليه ومقتنع بما يقوم به ومسرور بالراحة التي يجدها في نفسه.
يرفض عثمان أن يشتري جوَّالًا ذكيًّا كمثل المجتمع الذي يعيش فيه، ويرفض أيضاً أن يستخدم التقنيات والوسائل الاجتماعية التي أشغلت العالم، ومقتنع بجوَّاله المهترئ الذي تكسرت أطرافه وما زال يعمل تحت رحمة الله.. إذ إن غاية ما يريده من الجوال هو أن يتصل وأن يرد على المكالمات التي تَرِد إليه، فقط هذا كل ما يريده من دون أن يزيد على ذلك شيئا.
هل علينا أن نعتبر حياة عثمان حياة مثالية في هذا الزمن الكئيب الذي لا تجد فيه ما يسر، ربما علينا أن نعتبر ذلك، هل تعلمون لماذا؟ دعوني أقول لكم إذن لماذا..
عثمان لا يعلم عن الحياة الخارجية لبيئته شيئاً، فقط يسمع أحيانا بشيء اسمه "أميركا" وأن ذاك الشيء يمارس دور الوصي على العالم والكل يرضخ له، ولا يدري هو لماذا يرضخون له؛ بل لا يهمه أصلاً لأن ذلك لا يؤثر على مصدر رزقه وقوت يومه ولا يهمه ما إذا كان الدولار ارتفع أم نزل أو أن كشف كوريا عن قنبلة هيدروجينية سيؤثر في خريطة العالم ومجريات السياسة..
رغم عاطفته الجياشة لا يعلم عثمان أن مضايا السورية محاصرة منذ خمسة أشهر، وأن أهلها جياع قاربوا الهلاك وأصبحوا هياكل عظمية وأن أطفالها يموتون بشكل بطيء.. إذ لا يجدون حليبا يرتضعونه ولا يوجد في أثداء أمهاتهم ما يرتشفونه..
ولا يعلم عثمان أيضاً أن النظام السوري ارتكب مجزرة حين شن غارات جوية على مدينة الرقة وقضى على ما يقرب من 130 شخصاً في وقت واحد، ولم يشاهد عثمان صورة "إيلان" الطفل السوري الذي وجدت جثته هامدة على شاطئ البحر قبالة سواحل بودروم التركية، ولم يشارك العالم الضجيج الذي لم يخرج بشيء مفيد لأقران "إيلان".
من أجل جهله بهذا كله؛ ينام عثمان قرير العين مرتاح البال كل يوم.. لا ينغص عيشه طغيان بشار ولا طائرات بوتين، ولا مجازر البوذيين في ميانمار ضد أقلية الروهنغيا المسلمة، ولا شيء آخر سوى هم الرزق.
وهو على هذا في النقيض تماما من صاحبه الذي يتابع كل مستجدات الحياة من حوله بكل حرقة وبكل ألم، بل تأتيه أيام يهجر النوم عينه وتسكنه آلام أولئك الذين يلتحفون الظلم من يد ظالميهم فيحدِّث نفسه عن مستقبل هذه الأمة: العربية منها والإسلامية وتصارعه أفكاره هكذا إلى أن يكتشف أن الصبح اقترب فيحاول النوم سريعاً لكن الصبح ينبلج ويضطر إلى الذهاب إلى عمله وهو ما انفك غارقاً في أفكاره وخلجات نفسه.
لقد صدق المتنبي حين قال:
"ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم"
فما أهنأ حياة عثمان وما أشقى حياة صاحبه.
إن إدراك كل ما يجري حولك من مآسٍ كفيل بأن يجعلك رهين الهم سجين الآلام وأنت تفكر في عواقب الأمور ومآلات الحياة والمقادير وتقلب الأحوال بينما الجاهل ينعم في الشقاوة لغفلته وقلة تفكره في العواقب وقد قال البحتري :
أرى الحلم بؤسا في المعيشة للفتى *** ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
وقال أبو نصر بن نباتة:
من لي بعيش الأغبياء فإنه *** لا عيش إلا عيش من لم يعلم
وقال ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها *** ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقال آخر:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبُهُ *** وجاهل جاهل تلقاهُ مرزوقا.
فهل علينا بعد هذا كله من حرج إن دعونا إلى الجهل والغفلة وصم الآذان عما يجري من حولنا رفقا بأعصابنا وحياتنا، كما يقول ذلك أصحاب تطوير الذات وعلم النفس؟ هل علينا من حرج؟
لا يدرك عثمان من أحوال الدنيا إلا ما تدركه جدته من تقنية النانو، ودخله ربما يزيد في بعض الأحيان على دخل صاحبه الذي تخرج من الجامعة وأصبح موظفاً مرموقاً في إحدى المؤسسات العلمية.
يغبط عثمان صاحبه أحيانا وفي أحايين أخرى كثيرة يرى أنه أفضل من صاحبه رغم فارق المنزلة الاجتماعية بينهما، ورغم أن هندامه وشكله ليس كمثل صاحبه، إلا أنه يقول دائما إنه يعرف قدره ويعرف ما له وما عليه ومقتنع بما يقوم به ومسرور بالراحة التي يجدها في نفسه.
يرفض عثمان أن يشتري جوَّالًا ذكيًّا كمثل المجتمع الذي يعيش فيه، ويرفض أيضاً أن يستخدم التقنيات والوسائل الاجتماعية التي أشغلت العالم، ومقتنع بجوَّاله المهترئ الذي تكسرت أطرافه وما زال يعمل تحت رحمة الله.. إذ إن غاية ما يريده من الجوال هو أن يتصل وأن يرد على المكالمات التي تَرِد إليه، فقط هذا كل ما يريده من دون أن يزيد على ذلك شيئا.
هل علينا أن نعتبر حياة عثمان حياة مثالية في هذا الزمن الكئيب الذي لا تجد فيه ما يسر، ربما علينا أن نعتبر ذلك، هل تعلمون لماذا؟ دعوني أقول لكم إذن لماذا..
عثمان لا يعلم عن الحياة الخارجية لبيئته شيئاً، فقط يسمع أحيانا بشيء اسمه "أميركا" وأن ذاك الشيء يمارس دور الوصي على العالم والكل يرضخ له، ولا يدري هو لماذا يرضخون له؛ بل لا يهمه أصلاً لأن ذلك لا يؤثر على مصدر رزقه وقوت يومه ولا يهمه ما إذا كان الدولار ارتفع أم نزل أو أن كشف كوريا عن قنبلة هيدروجينية سيؤثر في خريطة العالم ومجريات السياسة..
رغم عاطفته الجياشة لا يعلم عثمان أن مضايا السورية محاصرة منذ خمسة أشهر، وأن أهلها جياع قاربوا الهلاك وأصبحوا هياكل عظمية وأن أطفالها يموتون بشكل بطيء.. إذ لا يجدون حليبا يرتضعونه ولا يوجد في أثداء أمهاتهم ما يرتشفونه..
ولا يعلم عثمان أيضاً أن النظام السوري ارتكب مجزرة حين شن غارات جوية على مدينة الرقة وقضى على ما يقرب من 130 شخصاً في وقت واحد، ولم يشاهد عثمان صورة "إيلان" الطفل السوري الذي وجدت جثته هامدة على شاطئ البحر قبالة سواحل بودروم التركية، ولم يشارك العالم الضجيج الذي لم يخرج بشيء مفيد لأقران "إيلان".
من أجل جهله بهذا كله؛ ينام عثمان قرير العين مرتاح البال كل يوم.. لا ينغص عيشه طغيان بشار ولا طائرات بوتين، ولا مجازر البوذيين في ميانمار ضد أقلية الروهنغيا المسلمة، ولا شيء آخر سوى هم الرزق.
وهو على هذا في النقيض تماما من صاحبه الذي يتابع كل مستجدات الحياة من حوله بكل حرقة وبكل ألم، بل تأتيه أيام يهجر النوم عينه وتسكنه آلام أولئك الذين يلتحفون الظلم من يد ظالميهم فيحدِّث نفسه عن مستقبل هذه الأمة: العربية منها والإسلامية وتصارعه أفكاره هكذا إلى أن يكتشف أن الصبح اقترب فيحاول النوم سريعاً لكن الصبح ينبلج ويضطر إلى الذهاب إلى عمله وهو ما انفك غارقاً في أفكاره وخلجات نفسه.
لقد صدق المتنبي حين قال:
"ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم"
فما أهنأ حياة عثمان وما أشقى حياة صاحبه.
إن إدراك كل ما يجري حولك من مآسٍ كفيل بأن يجعلك رهين الهم سجين الآلام وأنت تفكر في عواقب الأمور ومآلات الحياة والمقادير وتقلب الأحوال بينما الجاهل ينعم في الشقاوة لغفلته وقلة تفكره في العواقب وقد قال البحتري :
أرى الحلم بؤسا في المعيشة للفتى *** ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
وقال أبو نصر بن نباتة:
من لي بعيش الأغبياء فإنه *** لا عيش إلا عيش من لم يعلم
وقال ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها *** ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقال آخر:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبُهُ *** وجاهل جاهل تلقاهُ مرزوقا.
فهل علينا بعد هذا كله من حرج إن دعونا إلى الجهل والغفلة وصم الآذان عما يجري من حولنا رفقا بأعصابنا وحياتنا، كما يقول ذلك أصحاب تطوير الذات وعلم النفس؟ هل علينا من حرج؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.